19 أكتوبر 2019
الاحتجاجات العنيفة على القمم الدولية
منذ قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 والمظاهرات الاحتجاجية العارمة، العنيفة التي واكبتها، لا تنعقد قمة عالمية من دون احتجاجات. ويتظاهر المحتجون، خلال هذه اللقاءات الدولية التي يجتمع فيها من يمسك بالقرار الدولي، وبالتالي بمصير العالم اقتصادياً وسياسياً وبيئياً، لإسماع صوتهم، والتعبير عن رفضهم السياسات المتبعة.
في البداية، كانت العولمة القضية الخلافية الأساسية، فمقابل العولمة الليبرالية، بدون ضوابط التي تقول بها الدول الكبرى والمنظمات المالية والاقتصادية الدولية وجماعات المصالح، ترى الحركات الاحتجاجية وجود بديل آخر: عولمة إنسانية تضع الإنسان، لا السوق، نصب أعينها. وتقود الحركات الأهلية القادمة من كل أرجاء المعمورة حركة احتجاجٍ عالميةٍ، تشير إلى تشكّل "مجتمع مدني عالمي"، يحاول إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمجتمع، على الصعيدين المحلي وخصوصا الدولي، لأن للقرارات المتخذة دولياً انعكاسات فورية على حياة الناس محلياً. وقد وُصفت هذه القوى الاجتماعية العالمية بأنها مناوئة للعولمة، والحقيقة أنها ليست كذلك، فهي نتائج العولمة، وهي معنية بمساوئ الأخيرة لتصحيح مسارها، وليس لرفضها.
وقد عرقت هذه الاحتجاجات زخماً إعلامياً كبيراً، لاسيما مع منتدى بورتو إليغري وغيره. بيد أنها لم تتمكّن من تغيير توجهات الدول، وجماعات المصالح العابرة للأوطان المتحكّمة في القرار الدولي. ولم تجد تحذيراتها آذاناً صاغية، حتى جاءت أزمة 2008-2009 لتثبت مجدّداً أن السوق بدون ضوابط يعني الفوضى، وأنه يجب تبني قواعد عالمية لحماية النظام المالي- الاقتصادي من نفسه. لكن سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها، بعد أن تدخلت الحكومات، وأنقذت البنوك المفلسة بضخ المال العام، من دون أن تحاسبها على سياسيتها. هذا ما ينذر بأزمةٍ مماثلةٍ جديدة لا محال.
ظهور معارضة اجتماعية عالمية، عبر قمم مضادة لسياسات الأقوياء وقراراتهم، من دول
ومنظمات دولية وجماعات المصالح (كبريات الشركات العالمية) المسيطرين على مصير العالم، ظاهرة صحية، لأنها تضغط، قدر المستطاع، على هذه الفواعل النافذة، مظهرة قدرة عالية على التنظيم، وتدفعها إلى إعادة النظر في سياساتها، أو على الأقل التفكير ملياً فيها والعمل على تبريرها...
تواجه الحركة الاحتجاجية العالمية إشكاليتين. الأولى كيفية التأثير على القرار الدولي في وقتٍ أصبحت فيه جماعات المصالح (الخاصة – الشركات الكبرى) توجّه سياسات دولية وفقاً لمآربها، كما الحال مثلاً في مجال التقنين فيما يخص استعمال المبيدات الكيميائية المضرّة بصحة الإنسان والبيئة... أما الثانية فتتمثل في ظاهرة العنف التي تطبع عموماً المسيرات الاحتجاجية التي تواكب القمم الدولية، بدايةً من قمة سياتل لمنظمة التجارة العالمية 1999 وقمة جنوة لمجموعة الثمانية 2001 وقمة غوتبورغ لمنظمة التجارة العالمية 2001... لتمتد فيما بعد إلى بعض قمم الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وبداية من 2009 (قمة لندن) إلى قمم مجموعة العشرين. بل إنه، في بعض الأحيان، يخفت صوت التعبئة السلمية لصياح المظاهرات العنيفة، كما حدث في سياتل وغوتبورغ، وأخيرا في هامبورع بمناسبة قمة العشرين، التي عقدت في سياق أمني متوتر بسبب الإرهاب، وشهدت
مواجهات عنيفة بين متظاهرين وقوى الأمن الألمانية. وبرز، كما في القمم السابقة، الدور الكبير لبعض التنظيمات اليسارية العنيفة المعروفة بمناوأتها الرأسمالية والليبرالية، وفي مقدمتها تنظيم "بلاك بلوكس" (الألماني) المعروف الذي كان دائماً حاضراً في مختلف الاحتجاجات العالمية. وتلقى هذا التنظيم الذي، تحرّك هذه المرة في الديار (تم إنشاؤه في هامبورغ في السبعينيات) كعادته دعماً من التنظيمات الأوروبية المماثلة (من إيطاليا والدول الاسكندنافية..) لتشاركه مواجهته مع الشرطة الألمانية في شوارع هامبورغ، احتجاجاً على قمة مجموعة العشرين والسياسات التي تقودها وتمثلها. تستفيد هذه التنظيمات اليسارية المتطرّفة من التغطية الإعلامية الضخمة لهذه القمم الدولية، لتدخل في مواجهة مفتوحة مع قوى الأمن، فإستراتيجيتها هي دائماً نفسها: نقل الخطاب الإعلامي من الحديث عن القمة ذاتها إلى الحديث عمّا يحدث على هامش/ خارج القمة.
تسيء هذه التنظيمات إلى حركة الاحتجاج العالمية على سياسات القوى الكبرى، وكما تسرق الأضواء من القمم الدولية، فهي أيضاً تسرقها من الجمعيات الأهلية العابرة للأوطان، وتحول دون إسماعها صوتها، وإنجاح قممها المضادة. وتحد أيضاً من هامش حرية هذه الجمعيات الأهلية وتحرّكها، وبالتالي التظاهر لدواعٍ أمنية، فالمظاهرات السلمية التي عرفتها قمة مجموعة العشرين في هامبورغ، شارك فيها بالأساس متظاهرون أوروبيون. بمعنى أن الذرائع الأمنية (الإرهاب وعنف التنظيمات اليسارية المتطرّفة) يُعقِّد مهمة الجمعيات المدنية العالمية. والفواعل النافذة في السياسة العالمية هي المستفيد الأول، لأن التنظيمات العنيفة تشوّش على نشاط الجمعيات الأهلية السلمية، وعلى رسالتها، وتمنح الدول حجة إضافية في توظيف الذريعة الأمنية للحد من القمم المضادة... ومن الرأي الآخر في قضايا مصيرية تخصّ البشرية قاطبة.
في البداية، كانت العولمة القضية الخلافية الأساسية، فمقابل العولمة الليبرالية، بدون ضوابط التي تقول بها الدول الكبرى والمنظمات المالية والاقتصادية الدولية وجماعات المصالح، ترى الحركات الاحتجاجية وجود بديل آخر: عولمة إنسانية تضع الإنسان، لا السوق، نصب أعينها. وتقود الحركات الأهلية القادمة من كل أرجاء المعمورة حركة احتجاجٍ عالميةٍ، تشير إلى تشكّل "مجتمع مدني عالمي"، يحاول إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمجتمع، على الصعيدين المحلي وخصوصا الدولي، لأن للقرارات المتخذة دولياً انعكاسات فورية على حياة الناس محلياً. وقد وُصفت هذه القوى الاجتماعية العالمية بأنها مناوئة للعولمة، والحقيقة أنها ليست كذلك، فهي نتائج العولمة، وهي معنية بمساوئ الأخيرة لتصحيح مسارها، وليس لرفضها.
وقد عرقت هذه الاحتجاجات زخماً إعلامياً كبيراً، لاسيما مع منتدى بورتو إليغري وغيره. بيد أنها لم تتمكّن من تغيير توجهات الدول، وجماعات المصالح العابرة للأوطان المتحكّمة في القرار الدولي. ولم تجد تحذيراتها آذاناً صاغية، حتى جاءت أزمة 2008-2009 لتثبت مجدّداً أن السوق بدون ضوابط يعني الفوضى، وأنه يجب تبني قواعد عالمية لحماية النظام المالي- الاقتصادي من نفسه. لكن سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها، بعد أن تدخلت الحكومات، وأنقذت البنوك المفلسة بضخ المال العام، من دون أن تحاسبها على سياسيتها. هذا ما ينذر بأزمةٍ مماثلةٍ جديدة لا محال.
ظهور معارضة اجتماعية عالمية، عبر قمم مضادة لسياسات الأقوياء وقراراتهم، من دول
تواجه الحركة الاحتجاجية العالمية إشكاليتين. الأولى كيفية التأثير على القرار الدولي في وقتٍ أصبحت فيه جماعات المصالح (الخاصة – الشركات الكبرى) توجّه سياسات دولية وفقاً لمآربها، كما الحال مثلاً في مجال التقنين فيما يخص استعمال المبيدات الكيميائية المضرّة بصحة الإنسان والبيئة... أما الثانية فتتمثل في ظاهرة العنف التي تطبع عموماً المسيرات الاحتجاجية التي تواكب القمم الدولية، بدايةً من قمة سياتل لمنظمة التجارة العالمية 1999 وقمة جنوة لمجموعة الثمانية 2001 وقمة غوتبورغ لمنظمة التجارة العالمية 2001... لتمتد فيما بعد إلى بعض قمم الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وبداية من 2009 (قمة لندن) إلى قمم مجموعة العشرين. بل إنه، في بعض الأحيان، يخفت صوت التعبئة السلمية لصياح المظاهرات العنيفة، كما حدث في سياتل وغوتبورغ، وأخيرا في هامبورع بمناسبة قمة العشرين، التي عقدت في سياق أمني متوتر بسبب الإرهاب، وشهدت
تسيء هذه التنظيمات إلى حركة الاحتجاج العالمية على سياسات القوى الكبرى، وكما تسرق الأضواء من القمم الدولية، فهي أيضاً تسرقها من الجمعيات الأهلية العابرة للأوطان، وتحول دون إسماعها صوتها، وإنجاح قممها المضادة. وتحد أيضاً من هامش حرية هذه الجمعيات الأهلية وتحرّكها، وبالتالي التظاهر لدواعٍ أمنية، فالمظاهرات السلمية التي عرفتها قمة مجموعة العشرين في هامبورغ، شارك فيها بالأساس متظاهرون أوروبيون. بمعنى أن الذرائع الأمنية (الإرهاب وعنف التنظيمات اليسارية المتطرّفة) يُعقِّد مهمة الجمعيات المدنية العالمية. والفواعل النافذة في السياسة العالمية هي المستفيد الأول، لأن التنظيمات العنيفة تشوّش على نشاط الجمعيات الأهلية السلمية، وعلى رسالتها، وتمنح الدول حجة إضافية في توظيف الذريعة الأمنية للحد من القمم المضادة... ومن الرأي الآخر في قضايا مصيرية تخصّ البشرية قاطبة.