الاتفاق التركي ــ الإسرائيلي: تقاطع مصالح وفوائد استراتيجية للاحتلال

28 يونيو 2016
الاتفاق يلغي الملاحقات بحق جنود الاحتلال ومسؤوليه(أوزان كوزيه/فرانس برس)
+ الخط -
لم يجافِ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أمس الإثنين، الحقيقة عندما أشاد بأهمية اتفاق المصالحة الإسرائيلي التركي للأمن القومي الإسرائيلي. على المدى المباشر، فإن الاحتلال يحظى بشكل فوري بإغلاق ملف يقض مضجع عشرات ومئات جنود وقادة جيش الاحتلال الذين يخشون محاكمتهم أمام القضاء التركي، أو أمام هيئات دولية أخرى بفعل دورهم في اعتراض السفينة "مافي مرمرة" ومقتل 9 متطوعين أتراك. كما تتعهد الحكومة التركية بموجب الاتفاق بتعديل قوانينها وإغلاق الملفات التي تم فتحها بهذا الخصوص أمام المحاكم التركية، ناهيك عن التزامها بمنع أي شكاوى من مواطنين أتراك أمام هيئات قضائية دولية أخرى.

ويخشى كثيرون أن يؤدي ذلك إلى إطلاق أيادي جيش الاحتلال وجنوده مستقبلاً في أي مواجهة عسكرية آتية سواء في الجنوب مع قطاع غزة أم في لبنان أو حتى داخل الضفة الغربية. كما أن هذا البند يهم إسرائيل للغاية لناحية صورتها العالمية. كما يضمن الاتفاق، عملياً، توفير أسواق تركيا وأوروبا للغاز الإسرائيلي المكتشف في البحر المتوسط، إضافة إلى الأسواق الحالية المتمثلة بمصر والأردن والسلطة الفلسطينية. وعلى صعيد علاقات إسرائيل الدولية وانخراطها في المنظمات الدولية، فإن تركيا تعهدت أيضاً، بحسب تصريحات نتنياهو في المؤتمر الصحافي في روما أمس، بمساعدة إسرائيل في الانضمام لهيئات دولية أخرى وبعدم الاعتراض على ذلك.

ولعل هذين البندين، أي عدم مقاضاة إسرائيل وجنودها من جهة، ومساعدتها في الانضمام لهيئات دولية من جهة ثانية، يعدّان من أهم إنجازات إسرائيل من المصالحة مع تركيا، وهي مكاسب تتجاوز العلاقات الثنائية بين البلدين بفعل تداعياتها على مكانة إسرائيل في مواقع ومنابر دولية أخرى.


في غضون ذلك، فإن الاتفاق يقرّ عملياً ببقاء الحصار المفروض على قطاع غزة، وهو ما سمّاه نتنياهو بـ"حماية وضمان أمن إسرائيل على امتداد الساحل الفلسطيني مقابل قطاع غزة"، بما يتيح لها شرعية الإبقاء على سياسية حركة الدخول والخروج إلى قطاع غزة، ولا سيما مع إتاحة حركة وحرية نقل البضائع إلى القطاع بعد إخضاعها للتفتيش في ميناء أسدود. 

وبالتالي يمكن لإسرائيل الادعاء بأنها لا تفرض حصاراً على الشعب الفلسطيني في القطاع وإنما تفرض "ضوابط" للحفاظ على أمنها، لا سيما مع ما حكي عن موافقة تركيا على عدم السماح لحركة "حماس" بالاحتفاظ بتواجد عسكري أو قواعد للجناح العسكري فيها داخل الأراضي التركية وتعهد تركيا بمنع أي عمليات من أراضيها. كلام ينفيه المسؤولون الأتراك وقادة حركة "حماس" أصلاً في نفيهم المكرر لوجود شيء يسمى مكاتب عسكرية خارجية للحركة.

ومع موافقة إسرائيل لتركيا على بناء محطة لتوليد الكهرباء وأخرى لتحلية المياه، وتنفيذ مشاريع ضخمة في الأراضي المحتلة، إلا أن إسرائيل أبقت ملف رفع الحصار على غزة معلقاً وذلك لضمان خفض وتحديد حجم الضرر الذي قد يسببه الاتفاق مع أنقرة على علاقاتها مع مصر.
وفي هذا السياق، من الواضح أن تل أبيب لا تعتزم تقديم "الكعكة" كلها لتركيا بل تريد الإبقاء على إنجاز ومكاسب يمكن للنظام المصري أن ينسبها لنفسه في السياق الفلسطيني تمنحه شرعية أمام الرأي العام المصري أولاً والعربي عموماً، كإحدى ثمار التحالف الاستراتيجي القائم بين تل أبيب وبين النظام في مصر. كما أن تل أبيب تريد، على الرغم من تصريحاتها المتلاحقة ضد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أن تبقي متسعاً وحيزاً للسلطة الفلسطينية في كل ما يتعلق بترتيب أمر الهدنة وفتح المعابر مع قطاع غزة لسلطة عباس، حتى لا يتحول الاتفاق مع أنقرة إلى إنجاز ومكسب لحكومة "حماس" في قطاع غزة.

في هذه الأثناء، فإن الاتفاق، وباعتراف جهات إسرائيلية مختلفة بينها نتنياهو نفسه، يعكس عملياً التقاء مصالح استراتيجية بين تركيا وإسرائيل، ولا سيما في ظل استمرار الثورة السورية ويفتح الباب أمام تنسيق تركي إسرائيلي في ما يتعلق بمستقبل الأزمة في سورية، ويأتي مكملاً في هذا السياق للتنسيق العسكري بين إسرائيل وروسيا في تركيا، بعدما كانت إسرائيل عززت التنسيق العسكري مع روسيا مستفيدة من الأزمة في العلاقة بين أنقرة وموسكو بعد إسقاط سلاح الجو التركي العام الماضي مقاتلة روسية اخترقت الحدود التركية.

ووفقاً لمصادر إسرائيلية مختلفة، فإن الاتفاق يتيح على المدى القريب عودة التنسيق الاستراتيجي بين البلدين، كمقدمة لعودة التنسيق العسكري والمناورات المشتركة في المستقبل بعد تطبيع العلاقات بين الطرفين. ويعني هذا الأمر احتمالات المسارعة إلى تبادل المعلومات الاستخبارية بين البلدين واستئناف التنسيق والتعاون في مجال "السايبر"، ولا سيما في كل ما يتعلق بمحاربة "داعش" من جهة، وتعزيز مواجهة المحور الإيراني في سورية من جهة أخرى.

مع ذلك، فإنه سيكون على تل أبيب أن تهدئ من روع شركائها وحلفائها الآخرين في المنطقة، ولا سيما قبرص واليونان، بعدما كانت إسرائيل بذلت في العامين الماضيين جهداً كبيراً في ترسيخ تحالف استراتيجي مع قبرص واليونان من جهة ومع مصر من جهة أخرى، بالتأسيس على تراجع علاقاتها مع تركيا. وهذا ما يفسر حرص نتنياهو خلال المؤتمر الصحافي في روما على التأكيد أنه أطلع زعماء هذه الدول ومعهم أيضاً الأردن على تفاصيل الاتفاق مع تركيا وكونه لن يمسّ بالعلاقات المتبادلة بين إسرائيل وبين هذه الدول.