14 ديسمبر 2019
الإمارات وقطر وأزمة النظام العربي
محمد حامد العيلة
كاتب فلسطيني، ومساعد باحث وطالب علوم سياسية وعلاقات دولية في معهد الدوحة للدراسات العليا.
"خلافنا مع قطر يتجاوز الخلاف الدبلوماسي، وإذا سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين، أي شرقَ أوسطٍ يُريدون رؤيته في السنوات العشر المقبلة، فسيكون شرقاً أوسط مختلفاً بشكل أساسي عما تريده قطر". بهذه الكلمات، وضع سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، يده على أحد أهم أوجه الخلاف بين دول الحصار وقطر، وهو تضاربُ رؤية كُل منهم بشأن مستقبل الشرق الأوسط وطبيعته، وانعكاس ذلك سلبًا على تنافس الدور والتأثير في ملفات الإقليم الذي آل لاحقاً إلى صدام مباشر بينهم.
شكلت السياسة الخارجية القطرية، منذ تولي الشيخ حمد بن خليفة الحكم عام 1995 حالة جديرة بالدراسة لسلوك دولةٍ صغيرة في منطقةٍ مشتعلة لسياسة الباب المفتوح، وإقامة علاقات مع الفاعل والفاعل المضاد. وشكّل ذلك رافعة للدور القطري في المنطقة، ومدخلًا ليكون هذا الدور فاعلا في القضايا الشائكة، لتمكنها من أن تكون جسرًا خلفيًا فوق المناطق الحمراء التي لا يمكن لأطراف الخلاف الوصول إليها لأسباب قانونية أو مبدئية. ونسجت شبكةً ممتدة من الحلفاء في المنطقة العربية، جُلّهم من الفواعل ما دون الدولة، وفي طليعتهم حركات الإسلام السياسي، فقدمت لبعضهم دعمًا سياسيًا وماديًا، بجانب الدعم المعنوي الذي عمَّ الجميع. ثم راكمت قطر، بسياستها الناعمة، مكانةً دبلوماسية في الإقليم، هيّأتها لتصير قوة إقليمية صاعدة، قادرة على الانغماس في قلب تفاعل "سياسة الشارع"، وأن تكون القوة الإقليمية الأقدر على مراكمة مكاسب التغييرات المستقبلية في بُنية النظام العربي، وراهنت في استثمارها بهذه الشبكة التي كانت أقرب إلى نبض الشعوب على قدرتها على ملء أي فراغ سياسي محتمل في بلدانهم.
مرَّت السنوات، لتشهد المنطقةُ العربية حركة تغيير ثورية غير مسبوقة نتيجة مسبّباتٍ سياسية، اقتصادية، اجتماعية وغيرها، تراكمت عبر عقودِ الاستبداد السياسي، وشكّلت محطةً مهمة في المشروع القطري، حيث رأت فيه الدوحة فرصةً لتحقيق مكاسبَ استراتيجيةٍ، وحفّزها تسارُعُ
عجلة الثورات وقوة تأثيرها، والتي نتج عنها إسقاطُ رؤساء أربعة نُظم سلطوية عربية متأصلة في الجسم السياسي للنظام العربي السلطوي! كما وهزّت هذه الثورات عروش رؤساء آخرين، شعروا بأنهم ليسوا بمنأى عن موجات التغيير الشعبية، فدفعتهم الثورات إلى تطبيق اصلاحات سياسية ودستورية، أتاحت هامشًا أوسع للقوى المتحالفة والصديقة لقطر للعب دورٍ أكبرَ في السياسة المحلية لبلدانهم، وعزّزت هذه النجاحاتُ المتقدمة لقطر من نفوذها وقرّبتها أكثر من إنجاز مشروعها، وجعلت من الدوحة أحد مراكز ثقل القرار العربي، متجاوزةً بذلك قيودها الجغرافية والديمغرافية في لعب أدوار سياسية غير مقيّدة في حدود مجالها الحيوي فقط.
ثم فرضت التحولاتُ الإقليمية التي شهدتها المنطقة العربية على الإمارات أن تُجري تقييمًا استراتيجيًا لتلك التحولات، وانعكاسات تنامي حركات الإسلام السياسي على المشروع الإماراتي الذي اتضحت معالمه، بعد أن غيّبَ المرضُ خليفة بن زايد عن الحكم، فخطّطت أبوظبي لإعادة إنتاج تكتلٍ سياسي وأمني واقتصادي عربي جديد من داخل النُظم السلطوية، واتخذت خطواتٍ لمعالجة التراجع الإماراتي عبر كبح النفوذ القطري المتصاعد، في ظل تسيُّد حركات الإسلام السياسي المشهد في المنطقة العربية. لم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل قامت بخطوات تصعيدية غير مسبوقة، وبشكل متزامن، تمحورت حول حصر دولة قطر وعزلها عن محيطها الخليجي، وتحجيم نفوذها في المنطقة إلى ما قبل عام 2011، ومحاربة أطرافها في الأقطار العربية. وتظلُّ كامنةً لاقتناص الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، وذلك بعد استمالة القوى العربية المؤثرة إلى صفها، وفي مقدمة هذه القوى السعودية، منتهزةً الفرصة للولوج إلى لحظةَ بروز ملامحَ لخلافٍ داخل العائلة الحاكمة في السعودية! فتسللت إلى مراكز صنع القرار، واستقطبت كبار الشخصيات للتأثير في القرارات العليا للمملكة، ما أدى إلى توافق مصلحي في إدارة ملفات الإقليم، ولا سيما المصري واليمني والسوري، بالإضافة إلى استثمار ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، في شخص محمد بن سلمان، التواق للحكم بتسويقه إلى قيادة واشنطن، مقدّما له الدعم والتوجيه.
وارتكز المشروع الإماراتي، والذي أصبح لاحقًا مشروعا إماراتيا- سعوديا، على إعادة بناء نظامٍ عربيٍ جديد، بعقيدة رئيسية، قائمة على محاربة الإرهاب، فاتخذت الدولتان، والدولُ المنضمة لها سلوكًا سياسيًا يضيّق الخناق على شبكة حلفاء قطر، ويقوِّض نفوذهم؛ واستحداث لباسٍ جديد لتعريف مصطلح الإرهاب، يتَّسع لجر الإسلام السياسي فيه، وحشْره في تلك العباءة، بصبغةٍ دوليةٍ، وبقرارات وتشريعات وسلوك سياسي وبتمهيدٍ إعلاميٍّ مركَّز! ما شكّل ضربةً لجوهر المشروع القطري. وتجاوز التضييق على حلفاء قطر في الإقليم، وملاحقتهم إلى خارج حدود الشرق الأوسط، ومن ذلك محاولة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين إرهابية في بريطانيا، وقد باءت جهود الابتزاز الإماراتي لتبني وجهة نظر بريطانية معادية لـ "الإخوان" بالفشل.
من بابٍ آخر، لعلَّ اقتلاع موجةِ الثورات المضادة للإخوان المسلمين من الحكم في مصر شكّل حدثًا فارقًا، وأثّر على موازين القوى في المنطقة، فمنذ حدوث انقلاب 3 يوليو (العام 2013) ومجملُ الأحداث السياسية تصب في غير صالح المشروع القطري، مع تزايدٍ مستمر في الثقل الإقليمي للإمارات، على حساب رصيد ما راكمته قطر، وعزّز ذلك جنوحُ السعودية عن مواقف كانت قريبة للموقف القطري، وتقاربها مع الموقف المصري، كالموقف من الأزمة السورية، وما تلا ذلك من علاقاتٍ إماراتية سعودية من نوع خاص مع مصر، وانتقال مصر إلى صف المعسكر الإماراتي.
لم ينته الأمر عند ذلك، ولم تتوقف فصول صدام المشاريع القطرية والإماراتية في الشرق
الأوسط؛ بل انتقلت إلى ساحة الولايات المتحدة، لتمتع واشنطن بنفوذ في الخليج العربي لا ينافسها فيه أيُّ لاعب دُولي، مع علم دول الخليج أن الولايات المتحدة تتخذ قراراتها وفقًا لأولوياتها ومصالحها، وأن المصالح الخليجية- الأميركية المشتركة متغيرة، وإدراكها أيضًا أن واشنطن تغضُّ الطرف عن هامش الخلافات البينية بين الدول الخليجية بمحدّد الحفاظ على الاستقرار، وتحييد الحلول العسكرية. لهذا، شكلت واشنطن ساحةَ خلاف رئيسية، وسعت الأطراف إلى التأثير على الرأي العام الأميركي، والنُخبة الحاكمة في واشنطن، لإصدار قراراتٍ تصب في مصلحة كُل طرف.
كانت الإمارات المستعدَّة الأولى، قبل غيرها، للمناورة في معركة واشنطن، فبدأت ضخِّ الأموال لشراء الذمم بشكلِ أساسي، وعلى المؤسسات الأميركية بدرجة أقل، فتمكّنت من استمالة عشرات من النخب الأميركية من كبار موظفي الإدارة الأميركية ونواب الكونغرس، والكُتاب والإعلاميين، والباحثين الكبار، لتلحق بها قطر متأخرة، فوثّقت علاقتها بالمؤسسات الرسمية، كالخارجية والدفاع، واستثمرت في كبرى مراكز الأبحاث الأميركية والباحثين فيها، أما السعودية فكانت آخر الملتحقين وأسرعهم وصولًا باستغلال "لحظة ترامب"، وإغرائه شخصيًا بالمال.
بعد انتكاسة الربيع العربي، استمرت قطر في استراتيجيتها وسياستها في المنطقة، مع تغييرات طفيفة في أدواتها، فأبرمت اتفاقيات احتمائية، مثل الاتفاق الأمني والعسكري مع تركيا، فيما لم تتخلَّ عن قوى الإسلام السياسي، لغياب القوى البديلة الأخرى، ولاحتفاظ هذه القوى، على الرغم من تهاوي نفوذها، بتأثير إقليمي وتشابك مع بعض دوائر الحكم في المنطقة. لهذا، وظفت الإمارات والسعودية "لحظة ترامب" للانقضاض مجددًا على قطر، بعد فشل أزمة العام 2014 في إعادة الدوحة إلى المقعد الخلفي في الملفات الإقليمية. ووجدت قطر نفسها بعد قرار الحصار المفاجئ في مهب عاصفةٍ إقليمية عاتية، واجهتها باتزان وحكمة؛ على الرغم من تسارع الأحداث، لارتباط تلك الأحداث بالبيئة الداخلية الأميركية بوجود دعاوٍ لعزل ترامب عن الحكم؛ ما يعني انهيار الجهود السعودية-الإماراتية في تثبيت وقائع، وفرض ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط، فجاء قرار الحصار المفاجئ ليكشف فقدان رصانة ممارسة السياسة الخارجية لتلك الدول وصوابها، وبالذات السعودية التي قامرت سابقًا في أرصدة تأثيرها في بغداد وبيروت وصنعاء ومقديشيو، وتجاوزتها إلى باكستان وأفغانستان. وانعكس هذا الضعف على البيئة الداخلية لحكامها، فأضعفها وعمَّق من الانقسامات بداخلها، لم يكن أوَّلَها إطاحة الأمير أحمد بن عبد العزيز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 لصالح محمد بن نايف، ولم تنتهِ بإطاحة الأخير لحساب الشاب محمد بن سلمان في يوليو/ تموز 2017.
من هنا وهناك.. قريباً أو بعيدًا.. كان المواطن العربي يستقبل صباحه بتلك الأحداث وتفاصيلها على مواقعَ التواصل الاجتماعي وشرائط الأخبار؛ ويبقى السؤال مفتوحًا: ماذا ينتظر المواطن العربي من سيناريوهات لما بعد الحصار، وإعادة بناء النظام العربي؟
شكلت السياسة الخارجية القطرية، منذ تولي الشيخ حمد بن خليفة الحكم عام 1995 حالة جديرة بالدراسة لسلوك دولةٍ صغيرة في منطقةٍ مشتعلة لسياسة الباب المفتوح، وإقامة علاقات مع الفاعل والفاعل المضاد. وشكّل ذلك رافعة للدور القطري في المنطقة، ومدخلًا ليكون هذا الدور فاعلا في القضايا الشائكة، لتمكنها من أن تكون جسرًا خلفيًا فوق المناطق الحمراء التي لا يمكن لأطراف الخلاف الوصول إليها لأسباب قانونية أو مبدئية. ونسجت شبكةً ممتدة من الحلفاء في المنطقة العربية، جُلّهم من الفواعل ما دون الدولة، وفي طليعتهم حركات الإسلام السياسي، فقدمت لبعضهم دعمًا سياسيًا وماديًا، بجانب الدعم المعنوي الذي عمَّ الجميع. ثم راكمت قطر، بسياستها الناعمة، مكانةً دبلوماسية في الإقليم، هيّأتها لتصير قوة إقليمية صاعدة، قادرة على الانغماس في قلب تفاعل "سياسة الشارع"، وأن تكون القوة الإقليمية الأقدر على مراكمة مكاسب التغييرات المستقبلية في بُنية النظام العربي، وراهنت في استثمارها بهذه الشبكة التي كانت أقرب إلى نبض الشعوب على قدرتها على ملء أي فراغ سياسي محتمل في بلدانهم.
مرَّت السنوات، لتشهد المنطقةُ العربية حركة تغيير ثورية غير مسبوقة نتيجة مسبّباتٍ سياسية، اقتصادية، اجتماعية وغيرها، تراكمت عبر عقودِ الاستبداد السياسي، وشكّلت محطةً مهمة في المشروع القطري، حيث رأت فيه الدوحة فرصةً لتحقيق مكاسبَ استراتيجيةٍ، وحفّزها تسارُعُ
ثم فرضت التحولاتُ الإقليمية التي شهدتها المنطقة العربية على الإمارات أن تُجري تقييمًا استراتيجيًا لتلك التحولات، وانعكاسات تنامي حركات الإسلام السياسي على المشروع الإماراتي الذي اتضحت معالمه، بعد أن غيّبَ المرضُ خليفة بن زايد عن الحكم، فخطّطت أبوظبي لإعادة إنتاج تكتلٍ سياسي وأمني واقتصادي عربي جديد من داخل النُظم السلطوية، واتخذت خطواتٍ لمعالجة التراجع الإماراتي عبر كبح النفوذ القطري المتصاعد، في ظل تسيُّد حركات الإسلام السياسي المشهد في المنطقة العربية. لم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل قامت بخطوات تصعيدية غير مسبوقة، وبشكل متزامن، تمحورت حول حصر دولة قطر وعزلها عن محيطها الخليجي، وتحجيم نفوذها في المنطقة إلى ما قبل عام 2011، ومحاربة أطرافها في الأقطار العربية. وتظلُّ كامنةً لاقتناص الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، وذلك بعد استمالة القوى العربية المؤثرة إلى صفها، وفي مقدمة هذه القوى السعودية، منتهزةً الفرصة للولوج إلى لحظةَ بروز ملامحَ لخلافٍ داخل العائلة الحاكمة في السعودية! فتسللت إلى مراكز صنع القرار، واستقطبت كبار الشخصيات للتأثير في القرارات العليا للمملكة، ما أدى إلى توافق مصلحي في إدارة ملفات الإقليم، ولا سيما المصري واليمني والسوري، بالإضافة إلى استثمار ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، في شخص محمد بن سلمان، التواق للحكم بتسويقه إلى قيادة واشنطن، مقدّما له الدعم والتوجيه.
وارتكز المشروع الإماراتي، والذي أصبح لاحقًا مشروعا إماراتيا- سعوديا، على إعادة بناء نظامٍ عربيٍ جديد، بعقيدة رئيسية، قائمة على محاربة الإرهاب، فاتخذت الدولتان، والدولُ المنضمة لها سلوكًا سياسيًا يضيّق الخناق على شبكة حلفاء قطر، ويقوِّض نفوذهم؛ واستحداث لباسٍ جديد لتعريف مصطلح الإرهاب، يتَّسع لجر الإسلام السياسي فيه، وحشْره في تلك العباءة، بصبغةٍ دوليةٍ، وبقرارات وتشريعات وسلوك سياسي وبتمهيدٍ إعلاميٍّ مركَّز! ما شكّل ضربةً لجوهر المشروع القطري. وتجاوز التضييق على حلفاء قطر في الإقليم، وملاحقتهم إلى خارج حدود الشرق الأوسط، ومن ذلك محاولة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين إرهابية في بريطانيا، وقد باءت جهود الابتزاز الإماراتي لتبني وجهة نظر بريطانية معادية لـ "الإخوان" بالفشل.
من بابٍ آخر، لعلَّ اقتلاع موجةِ الثورات المضادة للإخوان المسلمين من الحكم في مصر شكّل حدثًا فارقًا، وأثّر على موازين القوى في المنطقة، فمنذ حدوث انقلاب 3 يوليو (العام 2013) ومجملُ الأحداث السياسية تصب في غير صالح المشروع القطري، مع تزايدٍ مستمر في الثقل الإقليمي للإمارات، على حساب رصيد ما راكمته قطر، وعزّز ذلك جنوحُ السعودية عن مواقف كانت قريبة للموقف القطري، وتقاربها مع الموقف المصري، كالموقف من الأزمة السورية، وما تلا ذلك من علاقاتٍ إماراتية سعودية من نوع خاص مع مصر، وانتقال مصر إلى صف المعسكر الإماراتي.
لم ينته الأمر عند ذلك، ولم تتوقف فصول صدام المشاريع القطرية والإماراتية في الشرق
كانت الإمارات المستعدَّة الأولى، قبل غيرها، للمناورة في معركة واشنطن، فبدأت ضخِّ الأموال لشراء الذمم بشكلِ أساسي، وعلى المؤسسات الأميركية بدرجة أقل، فتمكّنت من استمالة عشرات من النخب الأميركية من كبار موظفي الإدارة الأميركية ونواب الكونغرس، والكُتاب والإعلاميين، والباحثين الكبار، لتلحق بها قطر متأخرة، فوثّقت علاقتها بالمؤسسات الرسمية، كالخارجية والدفاع، واستثمرت في كبرى مراكز الأبحاث الأميركية والباحثين فيها، أما السعودية فكانت آخر الملتحقين وأسرعهم وصولًا باستغلال "لحظة ترامب"، وإغرائه شخصيًا بالمال.
بعد انتكاسة الربيع العربي، استمرت قطر في استراتيجيتها وسياستها في المنطقة، مع تغييرات طفيفة في أدواتها، فأبرمت اتفاقيات احتمائية، مثل الاتفاق الأمني والعسكري مع تركيا، فيما لم تتخلَّ عن قوى الإسلام السياسي، لغياب القوى البديلة الأخرى، ولاحتفاظ هذه القوى، على الرغم من تهاوي نفوذها، بتأثير إقليمي وتشابك مع بعض دوائر الحكم في المنطقة. لهذا، وظفت الإمارات والسعودية "لحظة ترامب" للانقضاض مجددًا على قطر، بعد فشل أزمة العام 2014 في إعادة الدوحة إلى المقعد الخلفي في الملفات الإقليمية. ووجدت قطر نفسها بعد قرار الحصار المفاجئ في مهب عاصفةٍ إقليمية عاتية، واجهتها باتزان وحكمة؛ على الرغم من تسارع الأحداث، لارتباط تلك الأحداث بالبيئة الداخلية الأميركية بوجود دعاوٍ لعزل ترامب عن الحكم؛ ما يعني انهيار الجهود السعودية-الإماراتية في تثبيت وقائع، وفرض ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط، فجاء قرار الحصار المفاجئ ليكشف فقدان رصانة ممارسة السياسة الخارجية لتلك الدول وصوابها، وبالذات السعودية التي قامرت سابقًا في أرصدة تأثيرها في بغداد وبيروت وصنعاء ومقديشيو، وتجاوزتها إلى باكستان وأفغانستان. وانعكس هذا الضعف على البيئة الداخلية لحكامها، فأضعفها وعمَّق من الانقسامات بداخلها، لم يكن أوَّلَها إطاحة الأمير أحمد بن عبد العزيز في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 لصالح محمد بن نايف، ولم تنتهِ بإطاحة الأخير لحساب الشاب محمد بن سلمان في يوليو/ تموز 2017.
من هنا وهناك.. قريباً أو بعيدًا.. كان المواطن العربي يستقبل صباحه بتلك الأحداث وتفاصيلها على مواقعَ التواصل الاجتماعي وشرائط الأخبار؛ ويبقى السؤال مفتوحًا: ماذا ينتظر المواطن العربي من سيناريوهات لما بعد الحصار، وإعادة بناء النظام العربي؟
محمد حامد العيلة
كاتب فلسطيني، ومساعد باحث وطالب علوم سياسية وعلاقات دولية في معهد الدوحة للدراسات العليا.
محمد حامد العيلة