الإمارات تمرّ إلى السرعة القصوى
لا يكتسي اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي دلالاته من دون وضعه في سياقه الإقليمي، المرتبط، تحديدا، بالدور المتنامي للإمارات في إجهاض ثورات الربيع العربي، وتمويل الحروب والانقلابات، ونشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. ولم يجانب كثيرون الصواب، حين اعتبروا الاتفاق تحالفا، وليس تطبيعا كما في الحالتين المصرية والأردنية. فالإمارات لم تكن، يوما، طرفا في مواجهةٍ عسكريةٍ ضد إسرائيل، ولا فاعلة في محاور مناهضة لها وللغرب. ولذلك، التوصيف الأنسب للاتفاق أنه صفقة إماراتية وإسرائيلية بأجندة إقليمية واضحة.
ولعل أول ما يلفت الانتباه في الاتفاق توقيته؛ فالثورة المضادة التي يقودها التحالف السعودي الإماراتي المصري تواجه صعوباتٍ جمة في أكثر من بلد؛ ففي تونس، تبدّد الحلم الإماراتي بإجهاض التجربة الديمقراطية من الداخل، بالرهان على فلول نظام بن علي لإعادة إنتاجه. وقد لا يكون مبالغا فيه القولُ إن قرار حركة النهضة بدعم حكومة هشام المشيشي حكمته اعتبارات إقليمية، مثلما حكمته اعتبارات داخلية بطبيعة الحال، في مسعى منها إلى سحب البساط من أبوظبي وإرباك حساباتها في تونس. وفي ليبيا، شكلت التحولات الميدانية أخيرا ضربة موجعة للإمارات التي راهنت على خليفة حفتر لإغراق ليبيا في حربٍ أهليةٍ طويلة، تستنزف أحلام الليبيين وتطلعاتهم نحو الاستقرار والسلم الأهلي. أما في اليمن، فقد بات دور الإمارات رئيسا في تقسيمه وفصل جنوبه عن شماله، وما يتردد بشأن عملها على فتح جزيرة سقطرى أمام إسرائيل يشكل الطور الأخطر في هذا الدور، هذا من دون إغفال فشلها في تسويق الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي في مصر، وتحويله إلى نموذج للاستبداد الجديد القادر على مواجهة الإسلام السياسي المعتدل.
تدرك الإمارات أن إمكاناتها لا تسمح لها بالذهاب بعيدا في مخطّطاتها الرامية إلى حماية الاستبداد والفساد في المنطقة، ولا سيما في ظل ما أبدته معظم الشعوب العربية من تطلع نحو الديمقراطية والحرية والكرامة. وتُدرك، أيضا، أنها ليست دولةً وازنةً ومؤثرةً في صياغة خرائط القوة والنفوذ في الإقليم، وأقصى ما يمكن أن تقوم به توظيف مواردها المالية الضخمة لتمويل القوى المناهضة للديمقراطية والتغيير. ومن هنا، ترى أن تحالفها مع الكيان الصهيوني سيذلّل عقباتٍ شتى أمامها، لضرب مصادر بناء الديمقراطية وترسيخها في المنطقة. ومن ذلك تمكينها من أن تصبح شريكا استراتيجيا للصهاينة، بما يعنيه ذلك، في منظورها، من امتلاك عُدة أمنية واستخباراتية لمحاصرة حركات المعارضة الديمقراطية، بمختلف أطيافها.
حملت الموجة الثانية من الربيع العربي، في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، رسائل كثيرة، أكثرها دلالة أنه إذا كان ما حدث في سورية واليمن وليبيا ومصر قد عطّل مسارات التغيير الديمقراطي السلمي، إلا أنه لم يؤثر على إيمان شعوب المنطقة بحقها في القطع مع الاستبداد والفساد، وإقامة أنظمة ديمقراطية تخضع للمحاسبة والرقابة. وقد استوعبت الإمارات ذلك، وفهمت أن نجاح مخطّطاتها التخريبية في المنطقة بحاجةٍ إلى غطاء إقليمي ودولي أكثر فاعلية من التحالف مع السعودية ومصر والبحرين. وهو ما يتأتّى عبر تحالفٍ استراتيجي مع إسرائيل، ترعاه الولايات المتحدة التي تتطلع بدورها إلى ما يعزّز نفوذها، ولا سيما في ما يرتبط بترويج خطتها بشأن "صفقة القرن" وما سيترتب عنها.
بطبيعة الحال، لن تقوم إسرائيل بذلك لأجل سواد عيون حكام الإمارات، فالتحالف مع هؤلاء سيفتح أمامها مسالك سياسية واقتصادية واستخباراتية جديدة، تسعفها في الانتقال إلى أطوار مغايرة في مخططاتها ضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخصوصا في ما يتعلق بالمضي في تطبيق قرارها ضم أجزاء من الضفة الغربية، والتغوّل في سياسات الاستيطان والتهويد والحصار. كما أن من مصلحتها تقديم خبرتها الأمنية والاستخباراتية واللوجستية للإمارات لمواصلة سياساتها بإشاعة الفوضى وتمويل الاضطرابات في المنطقة، لأن ذلك يخدم المشروع الصهيوني على المدى البعيد، ويتعارض، بالضرورة، مع أي مشروع عربي للنهوض والإقلاع.
بتحالفها مع إسرائيل، تكون الإمارات قد مرّت إلى السرعة القصوى في ''حربها المقدّسة'' (بتعبير الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي) التي تشنها على الديمقراطية والحرية في المنطقة.