الإعلام اللبناني: ثرثرة على ركام المدينة

07 اغسطس 2020
زملاء قلائل فقط تركوا الإثارة لصالح قصص الناس (حسين بيضون)
+ الخط -

ليس عشوائياً ولا اعتباطياً منظر المراسلة اللبنانية وهي تحاول التلصص على اجتماع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع سياسيين لبنانيين يوم الخميس في قصر الصنوبر. تخبرنا بمعلومات لا تهمّ أحداً، مجرّد ثرثرة فارغة تملأ بها هواء القناة، بعد ساعات طويلة من مناظر الركام والدماء والعويل: سامي الجميّل يجلس قرب جبران باسيل الذي يجلس بدروه قرب... فراغ إعلامي هائل تتوّج في المؤتمر الصحافي الذي عقده ماكرون، وتلقى خلاله أسئلة صحافيين لبنانيين وغربيين.

طلب بداية من الصحافيين تحضير سؤالين، وهو ما لم يحصل طبعاً. دخل الجميع إلى المؤتمر، لتتكرّر الأسئلة بشكل مخجل عموماً لأي صحافي. وهو ما دفع الرئيس الفرنسي إلى توجيه انتقاد واضح لهم، طالباً الاستماع إلى أجوبته، لأنه سبق أن أجاب عن هذه الأسئلة نفسها.

سؤال واحد جاء متفرداً من المراسلة المتلصصة نفسها؛ جويس عقيقي (قناة MTV) "لقد زرت مرفأ بيروت، برأيك، إلى جانب نترات الأمونيوم، هل كانت هناك مفرقعات أو ذخائر غير شرعية؟". هزّ الرئيس رأسه قبل أن تكمل سؤاله، وأمام عجزه عن الإجابة عن سؤال غيبيّ، تحدّث عن الثقة والحقيقة، ليعتذر لاحقاً عن عدم قدرته على الإجابة عن السؤال.

والحق يقال فإن عقيقي لم تكن وحيدة في كل هذا التخبّط، فلا الانفجار عاديّ، ولا الغضب عاديّ، ولا حجم الكارثة عاديّ. منذ مساء الثلاثاء، وجد الإعلام نفسه أمام أحجيات كثيرة، لا يملك إجابات عنها، لا يملك سوى ما يسمعه، وما يراه، لا خلفيات، لا متّهمين. لم يعطه أحد الوقت ليتحضّر (باستثناء ما قدّمه رياض قبيسي في الليلة نفسها على شاشة "الجديد")، فأعاد إنتاج خطابه التقليدي، مصدّراً أولوياته للمشاهد: تطمينات للبنانيين، إلى أن الأضرار في القصر الجمهوري والسرايا الحكومي ومجلس النواب مادية فقط (LBCI والجديد وأم تي في)، بينما اختارت إحدى المحطات الذهاب أبعد من ذلك، فذكّرتنا بما قاله المنجّم ميشال حايك عن انفجار سيقع في مرفأ بيروت. الغيبيّات هذه جاءت بعد أقلّ من ساعتين على الانفجار، بينما كانت الدماء والدمار يغرقان أحياء بيروت.

وحدها مبادرات فردية لمراسلين محليين، أخرجت التغطية من بهتانها وفراغها. مواقف صغيرة، مثل رفض تصوير الجثث، ورفض استغلال حزن الباحثين عن أولادهم تحت الركام (إدمون ساسين مراسل LBCI على سبيل المثال)، رفض رمي نظريات وفرضيات وآراء شخصية، على اعتبارها معلومات حاسمة... لكن صوت هؤلاء يتلاشى أمام مدرسة الإثارة: فهذا مراسل يصرّ على الصعود إلى مبنى آيل للسقوط، معرضاً حياته وحياة المصوّر الذي يرافقه للخطر، وهذه مذيعة ممتعضة من غضب الناس في الشارع على القوى الأمنية، وهذه مراسلة أخرى من قناة أخرى لا تخفي بهجتها وسعادتها على الهواء لرؤية الرئيس الفرنسي، وحالها حال كل زملائها. انبهار تامّ بماكرون الرئيس، بماكرون "الأب الحنون" كما سمّته إحدى المراسلات.

وأمام الاستعراض، وزخمه، تأخرت كثيراً المادة الخبرية والمعلومات التي انتظرها المشاهد: ما هي مادة نترات الأمونيوم؟ كيف وصلت إلى بيروت؟ لماذا بقيت في المرفأ؟ من يتحمّل مسؤولية عدم نقلها أو بيعها؟ المواقع الإعلامية الأجنبية هي التي أجابت بداية عن كل هذه الأسئلة، "ذا غارديان"، و"سي أن أن"، و"بي بي سي"، و"نيويورك تايمز"... منحت القارئ اللبناني كل المعلومات التي احتاج إليها، بينما انشغلت القنوات المحلية بهمومها الصغيرة، كاستصراح السياسيين، أو المحللين المحسوبين على هذا الطرف أو ذاك لتبادل الاتهامات.

يخبرنا الإعلام أن ماكرون سيرسل المساعدات مباشرة إلى الشعب اللبناني، لكنه لا يخبرنا عن تاريخ الحكومات اللبنانية المليء بعمليات سرقة المساعدات الدولية الخاصة باللبنانيين أو السوريين منذ عام 1992. لا شيء خلف الخبر، جمل إنشائية عاطفية فقط، وهجوم على السياسيين، ثمّ نقل كامل وتام لكل نشاطاتهم... الأولوية لهؤلاء، يقطع مؤتمر صحافي لنقيب المحامين ملحم يتحدّث فيه عن المسار القانوني لمحاسبة المقصرين، لنستمع إلى كلمة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة... تختفي صورة الشارع وصوت المشرّدين وأهالي المفقودين، لنرى رئيس مجلس النواب مبتسماً إلى جوار ماكرون.

تغييرٌ واحد، جاء قبل قليل، مع إعلان قناة LBCI أنها لن تنقل كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون، ولا كلمة أمين عام حزب الله حسن نصرالله اليوم

تغييرٌ واحد، جاء قبل قليل، مع إعلان قناة LBCI أنها لن تنقل كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون، ولا كلمة أمين عام حزب الله حسن نصرالله اليوم، "لأن ما بعد 4 آب ليس كما قبله، لأن ما بعد الزلزال ليس كما قبله، لأن إهمالكم وتخاذلكم هو أحد الأسباب الرئيسية لِما وصلنا إليه... لأنه بعد 4 آب المطلوب  فعل وليس حكي، إنجازات وليست خطابات، أعمال وليست أقوال" وفق إعلان القناة نفسها.

لا شيء تغيّر في أولويات الإعلام اللبناني، كل مراسل نجم على شاشته، يتحرّك ويتصرّف كأنه يغطّي انتخابات نيابية، أو قضية إفلاس شركة عقارية، زملاء قلائل فقط تركوا الإثارة لصالح قصص الناس، ومأساتهم، وتفاصيلهم الصغيرة التي تشكّل جحيمنا الكبير.

المساهمون