يحمرّ وجه مذيع وهو يصرخ في وجهنا خلال نشرة أخبار. يرفع يديه، مشيراً إلينا، من داخل الشاشة: "بلا مخّ". يقابله مذيع في برنامج آخر، على قناة أخرى: "نحن شعب قليل الفهم". هل هو الخوف من العدوى؟ القلق من تحوّل البلاد إلى بؤرة يتفشّى فيها فيروس كورونا، ونموت بعدها جميعاً؟ هل هو الاختلال النفسي الذي يصيب الجميع في ظروف قاهرة ومجهولة النهاية كهذه؟
ربما. لكن ربما لا. فهذا التأنيب، والغضب الذي يصبّه الإعلام علينا، يأتي في سياق مختلف تماماً. لا خوف فيه ولا قلق. سياق فوقي، متعالٍ، سلطويّ، اكتسبه الإعلاميون في لبنان عبر سنوات من تراكم النجومية، واحتكارهم الخطاب العام، وبناء شبكة علاقات مع الطاقم السياسي. هذا السياق نفسه يوصلنا في نهاية الطريق إلى الدفاع عن السلطة. "الحكومة قدَّمت كلَّ إمكاناتها". يتكرّر التعبير بصيغ مختلفة.
تخرج الطبول وترتسم الابتسامات على وجوه الإعلاميين والمراسلين، أثناء تغطية عودة اللبنانيين المهاجرين إلى بلدهم، هرباً من فيروس كورونا في المدن التي يعيشون فيها. تبجيل فاقع لإجراءات الحكومة، وانتصارها المبين، ليندمج الخطاب الإعلامي بخطاب السلطة، فيصبحان واحداً. وأمام هذا التماهي، ينشط بعض المذيعين والمراسلين في نشر الأخبار الكاذبة عن "ذهول المجتمع الدولي من التجربة اللبنانية في مواجهة كورونا".
وفي مقابل حفلة التهليل والتهنئة هذه، فيديو آخر، مراسلة أخرى، تصرخ في وجهنا، هذه المرة على مواقع التواصل الاجتماعي. تؤنبنا، نحن المتشائمين الذين ننتقد إجراءات السلطة ويعمينا الحقد، فلا نرى بقعة الضوء في بحر الظلام.
قبل أشهر قليلة جداً، أسابيع ربما، كنا نحن، نفس المشاهدين - المواطنين الذين نتعرّض للتأنيب اليوم - "أمل المستقبل"، والأرز الشامخ، والجيل الذي وضع حدّاً للحرب، كنا نحن بقعة الضوء في بحر الظلام... فكيف سرقت منّا الحكومة صفاتنا؟
الحقيقة أنه ليس في هذه التقلبات ما يدهش. إذ شهد الإعلام في لبنان تغييرات كثيرة طيلة تاريخه الحديث، أي تلك السنوات التي تلت الحرب الأهلية (1990) ثمّ سنوات ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري (2005). تبدلّت مصالحه وتحالفاته السياسية والإقليمية والمالية، ونجح طيلة هذه السنوات في الحفاظ على وجوده/ إنتاجه/ خطابه. ثمّ جاءت ثورة 17 تشرين 2019 لتتوّج شهوراً طويلة من الشحّ الماديّ، وتراجع التمويل المحليّ السياسي، وذاك الإقليمي. فاختارت القنوات (أغلبها) الانقلاب على ولاءاتها السياسية، والوقوف إلى جانب هؤلاء الغاضبين في ساحات بيروت بداية، ثمّ مدن الأطراف.
زادت الثورة من حدّة الأزمة المالية نتيجة تراجع الإعلانات، وغضب المصارف، فبدأ الاقتطاع العشوائي من أجور الإعلاميين والمصورين وباقي العاملين في هذه المحطات، وهو ما شكّل أزمة خانقة بالنسبة لعدد كبير من العاملين في هذه القنوات، بينما لم يتأثر آخرون. هؤلاء الذي يقبضون أجوراً من أماكن سياسية ومصرفية واقتصادية أخرى، فلا يشكّل راتب المؤسسة إلا جزءاً ضئيلاً من مدخولهم.
توالت الأحداث بعد ذلك، وتشكّلت حكومة حسان دياب، ووصل فيروس كورونا، وجلسنا كلنا في بيوتنا. ترك الإعلام وحده في الساحة، يعطي التوجيهات، ويؤمّن سقف حماية للحكومة في وجه كل من ينتقدها. يشتم المواطنين، ويهاجمهم، ويصرخ في وجههم. يختار الإعلام العودة إلى استقراره الرماديّ بظلّ السلطة، بعيداً عن التقلبات التي لا يعرف لها نهاية، ولا نتيجة.
وأمام هذا الخطاب العدوانيّ، لا تنسى القنوات اللبنانية أن الإعلام "رسالة". تجمع المساعدات المالية من المشاهدين، وتوزّعها على عائلات فقيرة. لكن حتى في هذه الخطوة، يعجز الإعلام عن الحفاظ على شذرات من المهنية. يحمل مراسلون، وخلفهم كاميرات ومصورون، علب المساعدات الغذائية التي تمّ جمعها، ويوزعونها على العائلات، في مشهد إذلال سوريالي. تظهر العائلات تلك في بيئتها المعدومة، ووسطها مراسلة أنيقة، تذرف دمعة.
بعد شهر أو سنة، عندما ينحسر فيروس كورونا، نعرف جميعاً أن الحياة لن تكون كما عرفناها. كل المعطيات والتحليلات تشير إلى تشديد القبضة السياسية والأمنية على الإعلام وحرية التعبير، في لبنان وغيره من الدول. وذلك الإصبع الموجّه إلينا، سيتوسّع ليصبح يداً، واليد ستحميها مؤسسة إعلامية، والمؤسسة يحميها نظام. كل شيء سيتغيّر إلا إعلاميو السلطة، ثابتون في أماكنهم، وها هم يحجزون لأنفسهم مكاناً مضموناً في تلك الأيام المقبلة.