الإعلام التونسي : "فاعل أم مفعول به"؟
في ظلّ ثورة الإعلام ومظاهر هيمنة الشاشة وإعلامييها وسط الساحة الاجتماعية والسياسية، وخاصة منها الثقافية، بات الإعلام التونسي يقيم مقام المحرك الاستراتيجي الأول ليوم المواطن، سواءً من ناحية بناء حسّه النقدي، أو تزويده بالأخبار.
ولكن بدأت تظهر مؤخراً بوادر الحياد عن دور الإعلام الفعلي، فنجده تارة يُستعمل كأداة تلاعب بالمواقف وتجاهل لواقع البلاد، وتارة أخرى سلطة تستعمل نفوذها.
من المعروف أن الإعلام في كل دول العالم وثيق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، أي إن الإعلام يرتبط بركائز الدولة الشاملة فإما أن يطرح مشاكلها ويبسط أخبارها، أو أن يساهم في التأثير عليها والتأثر بها.
لكن ما نراه اليوم في تونس يشكل معضلة يستعصي على البعض فهم دواخلها، سواء من الناحية الشكلية التي تسير بها الأمور مؤخراً، أو من الناحية المهنية، حيث تشابكت المفاهيم الأخلاقية وتراوحت بين المنجز والمطلوب.
الإعلام التونسي، خاصاً كان أو عمومياً، يواجه تحديات الاحترافية والمهنية، ولا شك تحديات الأخلاق والقيادة ومحاولة فهم الأحداث..ولهذا حين نفتح جرائدنا قلة منا ينتظر مقالاً زاخراً باستقراء وضعنا الاقتصادي أو السياسي، فقد بتنا نستهلك الأخبار استهلاكاً أعمى، لعله بمثابة معرفة للمعرفة ولا معرفة للنقد البناء.
وإن خيطاً رفيعاً يفصل بين مرحلة الكمّ عن مرحلة الكيف وفي ذلك يقول دكتور الاتصال جماهيري د.محمد قيراط ( لقد حان الوقت للانتقال من مرحلة الكم إلى مرحلة الكيف، لاستيعاب الدور المحوري للإعلام والعلاقات العامة في دعم بناء المجتمع والفرد والأمة ودعم صانع القرار). وهنا يجدر التساؤل هل إن المنظومة الإعلامية الحالية تقوم حقاً بوظيفتها الإخبارية القائمة على شرح القضايا وطرحها على الرّأي العام، أم أنها مشيّدة للقضايا الوهمية وعاملاً لتلهية الناس وتشتيتهم عن القضايا الفعلية خاصة بعد أحداث 11 أيلول؟.. هل الإعلام التونسي جزء من حياة شعبه أم أنه بمعزل عنها؟
في الحقيقة حين نمعن التمحيص في واقع شاشاتنا اليوم لا يخفى عنا كمُّ الفقر الإخباري وكمُّ المعلومات المحشوة باللغط، فالمقارنة أمست صعبة وكأن إعلامنا وواقعنا يسيران في خط متواز، وكل منهما على حدة.
والحديث عن الإعلام بمعزل عن مفهوم "الترف" مثل ما كان قديماً، ولكن بكونه واقعاً وضرورة لا يمكن لأيّ كان الاستغناء عنها، يطرح شبح المصداقية والتوازن في طرح القضايا ودائماً ما أعود لمثال ما حصل في 11 أيلول كفارق تاريخي رسخ في ذهن كل التونسيين، وأنه لا يزال حتى اليوم مرآة عديمة الملامح ..والكل يفسر حيثياتها كما يريد.
ولعل اغتيال اثنين من قادة المعارضة العلمانية في تونس، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، هو مثال ثان على ضبابية دور الإعلام وعدم قيامه بدوره الفعلي والمرجو منه. ثم إن مثل هذه القضايا لا بد للسلطة الرابعة أن تكون فيها متكاتفة مع الدولة علّها تكشف خيطاً من المستور وهو عكس ما يحصل بالبلاد اليوم، فمن ناحية نرى ركيزتي البلاد في صراع بيادق لا نتائج له سوى خراب الوضع على مختلف مستوياته، ومن ناحية أخرى هذا الصراع عديم الملامح والمواطن هو ضحيته الأولى بكونه المتضرر الرئيسي من هذا التوتر اليومي..
الإعلام الحكومي
مفهوم الإعلام الحكومي بمفهومه القديم – أي في عهد الاستبداد - كان مفهوماً احتكارياً بالأساس، حيث كانت أيادي الدولة تعبث بكل أركانه وتحركه ليخدمها دون سواها، ولم تكد الساحة الإعلامية تعرف شيئاً من الحرية، بل إن البعض اتفق على تسمية تلك الفترة تسيّباً إعلامياً نظراً لاكتساح وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة بشتى ملامح الفوضى- حتى عادت استراتيجية التعتيم الإعلامي والضغط على الإعلاميين والتضييق عليهم، إما للسيطرة على محتوى المادة الإعلامية المراد بثها، أو لخلق قضايا لا تمت لواقعنا بصلة ولأغراض سياسية بحتة.
وبالتالي وبدل أن يحاول الإعلام ككيان قائم بذاته التصدي لمثل هذه الممارسات الدكتاتورية والقمعية والحدّ منها عبر التضامن القطاعيّ، أو استخدام الإعلام لنفسه كوسيلة من وسائل الضغط على الدولة كي لا تسيطر الأخيرة عليها، بدل ذلك، سقطت المنظومة الإعلامية التونسية في فخ المعاملة بالمثل وأصبح شغلها الشاغل كيفية السيطرة على الدّولة، وعرقلة سير أمورها والحدّ من هيبتها، ووصل الأمر لشحذ الناس عليها عبر موجة عارمة من الانتقادات اللّاذعة غير البنّاءة، كثيراً ما وصلت حد البذاءة والشعبوية. صراع اصطلح على تسميته بحرب البيادق أي ببساطة حرب من دون رابح ...حرب التهديم من دون بناء ومن دون بوادر انفراج.
فقد أصبحت الساحة الإعلاـ سياسية زاخرة بكل صور الصراعات الجوفاء، البعض انجرّ وراء نظرية المؤامرة كسبب من أسبابها، والبعض الآخر في محاولة لفهمها يرجع الأسباب لنقص في التكوين الأكاديمي وانعدام كفاءة رواد الإعلام في الساحة وخاصة منهم صناع الرّأي العام عبر انشغالهم بما لا يخدم الوضع الراهن، بل وتجاوز ذلك إلى التشكيك في الأداء الإعلامي الذي لا يُفعل الحوار بين الإعلام والدولة، ويظل حكراً على الارتباط بالتوجهات الأيديولوجية للإعلاميين والساسة، وكذلك بالصورة المختزلة لديهم عن بعضهم البعض والتعامل من منطلقها...
ونعرض على سبيل المثال تجربة تعامل إعلامنا مع قضايا الراهن التونسي من هشاشة الاقتصاد، وضعف أركان الدولة، وتردي الوضع الاجتماعي. كلها تعاملات سطحية.
وتناول الإعلام لمشكل "الثالوث المعرقل" لنمو البلاد لم يتعد كونه تناولاً سطحياً لا يسمن ولا يغني، وبالتالي هو تناول ضعيف لا يبحث عن حلول بقدر بحثه عن رفع نسب المشاهدة، وخدمة مصالح أخرى غير مصلحة الوطن.