الإصلاح ومتواليات المتاهة والاستدراج

24 يوليو 2015
+ الخط -
"وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم" 
ردّ الربيع العربي الاعتبار للعمل الإصلاحي، في معناه العملي، بمعنى أنه ليس بطولات عظيمة وتضحيات كبرى. هو ليس معركة تحرير، ولا هدفا تسيل لأجله الدماء، لكنه النضال الممكن لأجل منظومة مكاسب، هي مكاسب ليست ملهمة، ولا تستهوي الشعراء، ولا تحرك الجماهير، لكنه نوع من النضال، لا يتطلب مواجهة جذرية، تؤدي إلى الإعدام والقتل والتشريد والهجرة واللجوء، ولا حتى السجن والاعتقال. وهو أيضا ليس معاونة للفساد والاستبداد، لكنه مستمد من مجموعة من الحقائق الأساسية للعمل والإصلاح، وهي، ببساطة، أن المجموعات الإصلاحية من قادة الطبقة الوسطى والنخب الاجتماعية والسياسية التي لا تريد المشاركة في الفساد والاستبداد، ولا تريد أن تخسر مصالحها أيضاً، ولا أن تدفع ثمنا هائلاً، لأجل الإصلاح.
تريد أن تدير منظومة من العمل، والتأثير في اتجاهات عدة تخدم الإصلاح: أن تعمل باتجاه استقلال المجتمعات والمدن، على النحو الذي يمكنها من أن تدير مواردها وأعمالها المستقلة عن السلطة السياسية. وفي ذلك، تشكل قياداتها الاجتماعية والسياسية، وفي ذلك، فإن النخب تكون مستعدة، أو يجب أن تكون مستعدة، لبناء مصالحها مع المجتمعات والمدن. سوف تخسر وتضحي، بقدر لا يفقدها جميع مكتسباتها، لكنها تتخلى عن مكتسبات ومصالح مع الفساد والاستبداد، لأجل مصالح أقلّ مع المجتمعات. هي خسرت الثراء الفاحش أو غير المشروع، أو المكتسبات والمزايا السهلة، لكنها أنشأت مصالح وموارد جديدة، وإن كانت أقل بكثير من المكاسب المتأتية من التحالف مع السلطة السياسية، لكنها كافية لحياة كريمة، ومكتسبات مرضية، أو هي، في عبارة أخرى، العمل والمشاركة مع المجتمعات والطبقات الوسطى، خصوصاً لأجل حياة أفضل، تدركها وتعيها جيداً، ويعجز عن تحقيقها الواقع القائم.
وهنا، تتشكل متوالية من الآفاق الممكنة للعمل مع المجتمعات ومصالحها، مثل تطوير الخدمات الأساسية للدولة في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، لتتفق منتجاتها مع الطموحات، وما تحب أن تكون عليه. سوف تساعد النخب المجتمعات على تنظيم نفسها نحو مطالب وأهداف تتفق مع مصالحها وأولوياتها الحقيقية، وتخرج التجمعات الجماهيرية والمطالبات من دائرة الغضب والشعور بالظلم إلى إدراك واضح وعملي، للعدالة والتقدم. وبذلك، فإنها تؤثر على السياسات الحكومية نحو ترشيد الإنفاق العام والارتقاء بمستوى الأداء الحكومي وعدالة الفرص والتنافس عليها. وبالنسبة للحكومة، فإنها تتجنب المواجهات الدامية والعنيفة مع الجمهور، وتملك قيادات المجتمع فرصاً وآمالا حقيقية بالحصول على مكاسب وفرص عادلة، تستحقها في المناصب العامة، أو في العطاءات والتوريدات والتنافس عليها. وتطور المجتمعات والسلطات علاقات من الشراكة والتوازن فيما بينها تقوّي المجتمعات، وتؤثر على الأسواق والسلع والخدمات، التي يوردها القطاع الخاص، وتكسر علاقة التحالف بين السلطة والسوق، وتمنع الاحتكار والإذعان للقطاع الخاص، والاحتكارات الشركاتية التي أثبتت أنها أشد سوءاً بكثير من القطاع العام، سواء في مستوى وجودة خدماتها وسلعها التي تقدمها، أو في عدالة الكلفة والربح، وفي الفساد أيضاً.

تبدو المكاسب في نهاياتها عظيمة، لكنها في بداية العمل لأجلها تبدو غامضة بعيدة المنال، وتخلو من البطولة والإلهام، وليست مقنعة للجماهير الساخطة المتذمرة، وقد يؤدي ثقل هذا الشعور إلى متاهة واستدراج في العمل الإصلاحي، وهذا هو الدرس الخاطئ للربيع العربي المقابل للدرس السابق؛ عندما تنجرف المعارضات والقيادات والنخب إلى أعمال جماهيرية وإعلامية، وتغويها المقابلات الصحافية والتلفزيونية، وتحلق في أجواء تعلم أنها، على الرغم من أن جاذبيتها وهمية أو غامضة أو مستحيلة، أو لا يمكن الوصول إليها من غير متطلبات وشروط، لا يمكن تجاوزها، أو تهرب إلى مطالب وأهداف غير ذات جدوى أو قيمة حقيقية، على الرغم من شعبويتها، وليست أكثر من هروب من المواجهة الحقيقية مع السلطات والاحتكارات، أو غطاء للمشاركة مع الفساد والاستبداد، ويتواطأ فيها الطرفان (الجماهير والنخب) على التهرب والإنكار، فتمضي المجتمعات والمعارضات في الصباح في شراكة أو تبعية فاسدة لتحالف المال والنفوذ، وتسهر في المساء في المهرجانات ولقاءات واعتصامات تنتقد السلطة وتطالب بالإصلاح.
يجب أن تعترف المجتمعات والمعارضات بحقيقة أن المواقف السياسية والعامة والفكرية تقوم على التطلعات المرتبطة بالسياسات الحكومية والأسواق، وأن العيب ليس هنا، لكنه في الأطماع والمكاسب غير المشروعة، أو في عدم القدرة على تضحية عملية، لا تذهب بالمكاسب، لكنها تحمي من التحالف الفاسد، وأسوأ من ذلك هو الشعور بالزهو والإنجاز، من دون فك الارتباط مع المصالح الفاسدة، أو بالتخلي عن المجتمعات، وتركها تواجه السلطات والشركات، من غير خبرة ولا تنظيم.
هناك مجال كبير أن يكون لدينا عدد كبير من القادة والرواد المصلحين في العمل العام والسياسي، إذا عرفنا ما الممكن عمله وما الواجب أيضا، المسؤول الذي يشغل موقعه العام بكفاءة ونزاهة، ولا يستفيد منه فائدة غير مشروعة! والمهني الذي يؤدي عمله بكفاءة ونزاهة، ويساهم في الإصلاح والتنمية في مجال مهنته وعمله، وليس باعتباره معارضاً سياسيا، ورجل الأعمال الملتزم بعدم الغش وعدم الرشوة، وبالإتقان في عمله والارتقاء بالجودة والخدمة، ومستوى السلع التي يوفرها للمواطنين بالسعر المعقول والربح المعقول. وقبل ذلك، إلى كفاءة هؤلاء وخبراتهم في مراقبة العمل العام وترشيده، وهذا أفضل ما يقدمونه للمجتمعات والإصلاح.

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"