الإصلاح العربي يحتاج إلى تعريف نفسه

02 مايو 2014
+ الخط -
في تقييم النضال العربي لأجل الإصلاح، على مدى قرن، يمكن تشكيل ملاحظة بديهية بسيطة، لكنها مع بداهتها وبساطتها تفسّر (ربما) كثيراً من العجز والفشل، وما زالت الحوارات التي تجري في التنظير للإصلاح، وتقييمه، غير قادرة على "تحرير المسألة"، كما يقال في التراث العربي.
الملاحظة البسيطة والبديهية أن أولويات الإصلاح، وأهدافه، كثيرة ومعقّدة، وأكثرها مستقلّ بعضه عن بعض، ولا تمثّل، بالضرورة، منظومة حلول شاملة لكل المشكلات والتحديات العربية! فالعلمانية، مثالاً، بما هي حياد الدولة تجاه الدين، تعني ببساطة النضال لأجل الحريات الدينية، وألا تنشئ الدولة سلطتها وسياساتها على أسس دينية، وتكريس سياسات وتشريعات تحوّل العلمانية إلى تطبيق واقعي وحياة معيشة. هذا النضال "العلماني" لا يعني، بالضرورة، التحرير والديموقراطية والتقدم الاقتصادي والتنمية، وهو صراع مع الدولة والسلطة السياسية، وليس مع الجماعات الأصولية.
صحيح أن التحرّر ضروري، ويمثّل أولوية كبرى، ويقابله أن التبعيّة شرّ كبير يجب التخلص منه. ولكن العمل لأجل التحرر ومقاومة التبعية ليس ذاته هو النضال لأجل "الاستقلال (الفصل) بين الدولة والدين"، وقد يجد المناضلون شركاء لأجل العلمنة ليسوا بالضرورة شركاء لهم في التحرّر. ومن ثم، لا يمكن بناء التحالفات والصراعات على نحو شامل وقطعي، ويحتاج المناضلون إلى الفصل بين خلافاتهم وصراعاتهم ومشتركاتهم، حسب الميادين والمجالات والأهداف. لا مناص من المزاوجة والقدرة على المزاوجة بين الاختلاف والاتفاق مع المكوّنات والاتجاهات الاجتماعية والسياسية على تناقضاتها واختلافاتها، ما يعني بالضرورة أن جميع الاتجاهات والتيارات يجب أن تظل قادرة على التعايش والصراع السلمي.
كيف يعمل العلمانيون معاً لأجل دولة علمانية، وهم في الوقت نفسه قد يكونون مختلفين ومتناقضين في قضايا أخرى، ذات أهمية وأولوية كبرى؟ كيف يتحالف متديّنون علمانيون مع غير متدينين علمانيين؟ وأصعب من ذلك، كيف يعمل معاً "التحرّريون" من العلمانيين والأصوليين، وهم يتفقون على مقاومة التبعية، ويختلفون على هوية الدولة وسياساتها؟
كيف يحدّد الناشطون والمناضلون لأجل الإصلاح، على مختلف اتجاهاته وقضاياه،  خصومهم وحلفاءهم؟ وكيف يوفّقون بين الاختلاف والصراع حول قضية، والاتفاق على أخرى؟ وهنا، فإن "الإصلاحيين" يخوضون صراعات خاطئة، ويهدرون فرصاً ولحظات عظيمة. فالعلمانيون يخوضون صراعهم لأجل العلمانية مع الجماعات المتشددة دينياً، على الرغم من أن مشكلتهم مع السلطة، وليست مع هذه الجماعات. صحيح أن الجماعات المتشددة تؤيّد وتدعم دوراً دينياً للدولة، لكنها ليست في السلطة، وفي الوقت نفسه، فإن السلطة، وإن كانت تبدو غير متديّنة، فإنها تمارس دوراً دينياً لا يقلّ سلطوية وقسوة عمّا يمكن أن تفعله الجماعات الدينية، إذا استلمت السلطة والحكم.
ولكن المسألة تبدو أكثر تعقيداً وصعوبةً عندما ينظر إلى الإصلاح والنضال لأجله بما هو مرتبط بشروط أساسية ضرورية، تبدو موضع صراع وخلاف، فالديموقراطية لا يمكن وصفها الا أنها علمانية، لا ديموقراطية من غير علمانية، وإن كان يمكن أن تقوم علمانية من غير ديموقراطية! كيف يمكن بناء تحالفاتٍ وصراعاتٍ مع جماعاتٍ تناضل، بالفعل وبصدق، لأجل الديموقراطية والتصدي للظلم والاستبداد، لكنها، في الوقت نفسه، تريد أن تحتكم الى الصناديق، وإنْ بصدق ومن دون تزوير، وهي مزوّدة باليقين الذي نزل من السماء، في حين أنه لا يمكن بناء ديموقراطية من غير نسبة وعدم يقين؟ فالانتخاب والتصويت يعني، بالضرورة، أنه لا يوجد صواب ويقين مطلقان.
الديموقراطية هي الحريات والتقدم الناشئ عن عدم المعرفة! ما يعني المراجعة المستمرة للآراء والبرامج والسياسات والتشريعات، وما يعني، بالضرورة، أن كل المقولات والافكار يجب أن تنال الفرصة نفسها من الحرية والقبول وفرص المشاركة والتعبير عن نفسها. كيف يمكن تكريس هذه المبادئ مع شركاء لديهم مقولات يعتقدون أنها الحق الذي لا يقبل المراجعة ولا أن يوصف بالخطأ أو القصور؟ صحيح أنهم يقبلون بالاحتكام الى الانتخابات لكنهم لا يؤمنون بنسبية الصواب وتعدديته. كيف يمكن الصراع معهم وقد خاضوا نضالاً صادقاً وطويلاً ضد الاستبداد، وتحمّلوا كثيراً من الأذى، وقدموا تضحيات كبرى؟ ماذا نقول للذين يبذلون حياتهم بحماس لأجل التحرّر ومقاومة الظلم والاستبداد، ولكنهم يفهمون الحريات ويمارسونها على نحو يناقضها على نحو أساسي، أو، على الأقل، يختلف مع نسبة كبرى من شركائهم ومؤيديهم في مقاومة الاستبداد؟
وبالطبع، فإن مواصلة التحليل والنظر في الإصلاح العربي على هذا النحو من "الشبكية"، يُظهر متوالية من المشكلات والصعوبات الأخرى، مثل توظيف الجماعات الاجتماعية التأثيرية، لأجل عمل سياسي مختلف عن رسالتها وفكرتها وروايتها المنشئة، وتوظيف المدّ الديني في حالة سياسية مختلفةٍ عن طبيعته واتجاهاته، كما وظّفه من قبل المدّ القومي واليساري في صراعات وبرامج سياسية مستقلة ومختلفة عنه، وربما يكون أكثرها صعوبة وفداحة العمل لأجل الإصلاح، بمحتوى وفكر غير إصلاحي!
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"