الإسلام في شظايا مرآته

22 ديسمبر 2015
(لقطة من فيلم "السيد إبراهيم وزهور القرآن")
+ الخط -

يرفضُ عددٌ كبيرٌ من المسلمين الحديث عن إسلام متعدّد رغم تعدُّد تصوّرات المؤمنين، فدين الله واحدٌ، والإسلام لا يتعدّد، وهذا اصطلاح وافد.

ومن السذاجة أن نقبل بإسلام سياسي وإسلام صوفي وإسلام سنيّ وآخر شيعي وأبيض وأسود، لكن الواقع يخبرنا عن تعدّد الرؤى للإله والرسل، وغيرهما من المرجعيات في البيت الواحد؛ فلكل منّا تصوّر صرّح به أم لم يصرّح، طوّره أم توقّف عند نقطة وتعدّاها إلى غيرها، أو ملّ من البحث واستسلم لما فرضته البيئة والأهل والمجتمع؟

ورغم أننا نعيش بيننا وبين أنفسنا على هذه الحال، إلا أننا نحبّ أن ندّعي صورة أمام الآخرين لا تجعلنا نشذّ عنهم حتى لا نقع تحت طائلة أحكامهم المجتمعية، وربما القانونية.

في رواية "السيد إبراهيم وزهور القرآن" للكاتب البلجيكي إيمانويل شميت، حينما صادق إبراهيم الطّفلَ موسى وأراه باريس التي لم يرها من قبل، رغم أنه يعيش فيها؛ توقّف ليجلس في أحد المقاهي. وهناك، تناول قدحاً من خمرٍ. علّق موسى على فعل العجوز المسلم: إنني قرأت أن المسلم لا يشرب الخمر.

أخبره السيد إبراهيم أنه صوفيٌّ. ربما عنى بذلك أنه لا يلتزم بأحكام الإسلام كما تقرّرها الشريعة التي ترى الخمر رجساً يجب اجتنابه وإثماً لا بد للمسلم أن يتطهّر منه. لم يعقّب الطفل بكلمة، وذهب ليقرأ عن المذاهب الباطنية في الإسلام.

إن تصوّر كاتب الرواية التي نسرد صورة منها عن الصوفية ربما كان مغلوطاً في نظر بعض المتصوفة المتمرّسين في هذا الطريق، فالكل يشدّد على مؤازرة الحقيقة للشريعة والتزام المسلم بها؟ لكن كاتباً يشاهد مثل هذا التنوّع من صور الإسلام في فرنسا، لا يقيم تصوّره على معلومة ملتقطة وهو يقدّم في رواياته التي تحظى بجمهور كبير من القرّاء صوراً متعدّدة للحب الكامن في الأديان التي يتفاعل الناس معها ويتحدّثون عنها ليل نهار، ويلصقون بها تهماً ويحلّلون أفعال أتباعها.

سيصاب القارئ المسلم بالدهشة في أقل ردة فعل تجاه هذا المشهد الروائي، وربما ازدادت حدّة إنكاره، وربما ردّد القول الشهير عن دسّ السّم في العسل، وذهب ليعدّد نماذج هذا الدسّ بانتقاء ما وقع فيه إبراهيم من أخطاء؛ فكيف يعطي نسخة من القرآن ليهودي؟ وكيف يأمره بالتزيّن ليلقى قبولاً عند العاهرات أو الفتيات في مثل عمره؟ وكيف يبيح لنفسه أن يتحدّث عن أفعاله التي يجب أن يسترها ولا يتحدّث عنها في مثل هذا العمر وقد شارف على نهاية الرحلة؟

سينسى بعضهم ما قدّمه السيد العجوز للطفل عوضاً عن أم تركته صبياً ورحلت، وأب كفر بمسؤوليته تجاهه، وشدّد عليه ألا يفعل كل ما أراده ولو كان قراءة كتاب أو الاستماع إلى شكواه.

عوّض موسى إبراهيمُ عن كل العناء الفائت، وبدأ معه صفحة جديدة من حياته، ربما كانت الولادة الثانية بتعبير المتصوفة أو بتعبير الإنجيل، انتقل موسى من مسِّ الأشياء ومعاينتها إلى الشعور بها. وبدل أن ينظر إلى الأرض، ظلّ بصره معلّقاً بالسماء، وشاهد في الرقص ما لم يكن يعرفه من قبل، تمت رسالة السيد إبراهيم فأسلم الروح وولد من بعده موسى وصار حيّاً.

نُقلت هذه الرواية إلى لغاتٍ عدّة، ومن حسن الحظّ أنها نُقلت إلى العربية في مصر، وجُسّدت في فيلم أدى فيه دور السيد إبراهيم الممثل المصري الذي يوصف بالعالمية عمر الشريف، غير أن الفن يبقى في نظر بعضهم ملوّثاً لكل ما هو ديني، فلا رسالة يؤديها ولا فكرة يُهتم بها من هذا الجمهور إلا بمشخّص العمل وما ورد فيه من أفكار تُعدّ في أوهن الأوصاف هنات.

في التراث الإنساني، ثمّة قصّة مشتركة رُويت على ألسنة فلاسفة اليونان كما يرويها المنتمون إلى البوذية، وقد انتقلت كما انتقل غيرها من القصص إلى تراث الإسلام الذي جاء لبِنة من لبنات سبقت تشيّد صرح الأديان، هي قصّة الفيل والعميان.

ملخّص هذه القصّة، كما وردت عند سنائي في "حديقة الحقيقة": كانت هناك مدينة كبيرة [...] وكان كل أهلها عمياناً، ومرّ ملكٌ بها، وضرب الخيام. وكان له فيلٌ كبير ذو هيبة، اتخذه من أجل الجاه والصولة، فرغب الناس فى رؤية الفيل، وذلك من كثرة ما سمعوا عنه من تهويل.

تقدّمت مجموعة من هؤلاء العميان إلى الفيل، ولكي يعلموا شكله وهيأته، أسرع كل واحد منهم إليه متعجلاً، فأخذوا يلمسونه بأيديهم. ذلك أنهم جميعاً كانوا فاقدي البصر، فلمس كل واحد منهم عضواً، واطلع على جزء منه وتعلق كل منهم بصور مستحيلة، وربط روحه وقلبه وراء خيال، وحينما عادوا إلى أهل المدينة، تجمّع العميان الآخرون حولهم -وكان كل واحد من هؤلاء الضالين سيّئي العقيدة راغباً ومتشوّقاً- فسألوا عن صورة الفيل وشكله، وسمعوا جميعاً ما قالوه، فذلك الذي وقعت يده على الأذن، سأله الآخر عن شكل الفيل فقال: شكل مهول وعظيم عريض وسميك ومتسع كالكليم- وذلك الذي وقعت يده على الخرطوم قال: لقد صار شكله معلوماً لديّ، فهو كالأنبوبة أجوف القلب، هو عظيم ومسبب للحيرة، وذلك الذى وقع ملمسه من الفيل على قوائمه الغليظة المليئة بالجذور، قال: إن شكله كما هو مضبوط حقيقة كأنه العمود المخروط. لقد رأى كل واحد منهم جزءاً من الأجزاء.

في الوقت الذي وصف سنائي هذه الرؤى بالظّن الخطأ، عقّب جلال الدين الرّومي في "المثنوي" عليها قائلاً: "وهكذا فكلُّ من وصل منهم إلى جزء منه، كان يفهمه طبقاً لما بلغ مسامعه عنه في كل مكان. واختلفت أقوالهم من اختلاف وجهات النظر، قال أحدهم: إنه "معوج" كالدال، وقال آخر بل "مستقيم" كالألف. ولو كانت في يد كلّ واحد منهم شمعة، لانتفى الاختلاف عن أقوالهم. وعين الحسّ مثل كف اليد فحسب، وليست لكف واحدة قدرة الإحاطة به ككل".

لا تزال هذه القصة حاضرة في الأدبيات الدينية، وربما تعجّب بعضهم أنها وردت على لسان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا واستشهد بها غير مرّة في أدبياته. ولا يزال المتابعون لأفكاره يرددونها كما رددها هو لضرورة بناء تصوّر شموليّ للإسلام، وكذا جمع الناس على رؤية واحدة قصد طلب النجاة.

تُذكر هذه القصة حين نشاهد مادة سئل فيها أكثر من مئة ألف مسلم وهم يعبّرون في آن عن "غضبهم" و"تديّنهم" بعد الأحداث الإرهابية في باريس. هذه المادة يتحدّث فيها شباب وفتيات عن كونهم مسلمين وليسوا إرهابيين، موجّهين رسالة إلى مجتمعهم المفتوح على كافة التصوّرات، شاذة كانت أو واقعية أو خيالية أو متسامحة أو عدائية. ودون دخول في تفاصيل التعاليق، إلاّ أنها عموماً تؤكد وتعضد للأسف وجهة النظر العدائية تجاه المسلمين من المسلمين.


اقرأ أيضاً: هل تنجو السينما الفرنسية من موجة الإسلاموفوبيا؟

المساهمون