13 نوفمبر 2024
الإسلاميون والحريات الفردية
دفعت حادثة توقيف الشرطة المغربية قياديين إسلاميين، قبل أيام، وتوجيه تهمة الخيانة الزوجية لهما، بالنقاش حول "الحريات الفردية" إلى الواجهة، على الأقل في بعض وسائل الإعلام، وعلى المواقع الاجتماعية من روادها المغاربة. ولأول مرة، انخرط إسلاميون في هذا النقاش، ليس من باب الهجوم على المدافعين عن هذه الحريات، كما كان يحصل حتى وقت قريب، وإنما من أجل الدفاع عنها، من باب درء الحرج الذي وجدوا أنفسهم فيه، للدفاع عن القياديين الإسلاميين اللذين وقعا ضحية عدم وجود قوانين تضمن هذه الحريات وتصونها.
وحتى الآن، عبَّر أكثر من متحدث باسم التيار الإسلامي في المغرب، عن شجبه وإدانته انتهاك حرمة شخصين بالغين، ورميهما بشبهة الخيانة الزوجية، على اعتبار أن ما حصل كان تعديّاً صارخاً على حريتهما الشخصية، وتدخلاً سافراً في حياتهما الخاصة. أما منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وهو هيئة حقوقية تعتبر بمثابة الذراع الحقوقي لحزب العدالة والتنمية، الإسلامي الذي يقود الحكومة في المغرب، فذهب بعيدا نحو المطالبة بمراجعة النصوص القانونية في القانون الجنائي المغربي التي تمسّ الحياة الخاصة للأفراد.
وتكمن أهمية هذا النقاش المثار حالياً في موضوعه الذي طالما شكل نقطة خلافٍ حسّاسة بين الإسلاميين من جهة واليساريين والعلمانيين من جهة أخرى في المغرب. فكثير من الإسلاميين ما زالوا يعتبرون أن موضوع الحريات الفردية إنما هو حصان طروادة الذي يستعمله الغرب، ومن يتبنون أفكاره من ديمقراطيين وعلمانيين وليبراليين ويساريين وحداثيين، لتهديم المجتمعات الدينية وتخريبها من الداخل. وهم غالباً ما ينطلقون من معاداتهم الحريات الفردية من منطلق أخلاقي، كون أن الإسلام دين أخلاق بالدرجة الأولى، والقرآن الكريم، عدا أنه كتاب عقائد وعبادات ومعاملات، فهو أيضا كتاب أخلاق، جاء "يهدي للتي هي أقوم". من دون الإشارة إلى السيرة النبوية التي جعلت من موضوع الأخلاق أحد أهداف الرسالة النبوية نفسها، بدليل الحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن منظور كل إسلامي، وضع الإسلام لـ "الحياة الخاصة" للإنسان حرمةً نصّت عليها تعاليم الإسلام، سواء التي نصّ عليها النص القرآني صراحةً، أو التي وردت في الأحاديث والسيرة النبوية، من حرمة المسكن، وحماية الأعراض، والابتعاد عن رمي المحصّنات، وحفظ الأسرار، وأمانة الرسائل.. إلى غير ذلك مما يدخل في الحياة الخاصة للفرد التي يُعتبر احترامها من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الإسلام، باسم الامتثال لـ "الأخلاق الحسنة".
لكن "الحياة الخاصة" ليست سوى فرعٍ من أصل، هو الحريات الفردية التي تشمل حرية الفكر
والرأي والاعتقاد.. وهنا، يقع الخلاف مع بعض الإسلاميين الذين يريدون أن يحصروا مفهوم الحريات الفردية في حرمة "الحياة الخاصة"، مع أن الحرية الفردية في مقدمة الحريات التي اهتم بها الإسلام، لما يترتب عنها من إمكان تمتع الفرد بباقي حرياته، خصوصاً ذات الشق المعنوي، وفي مقدمتها حرية الرأي وحرية العقيدة والعبادة التي كفلها الإسلام لغير المسلمين، وحماها داخل دار الإسلام.
أما القوانين والشرائع الدولية التي يستند إليها المدافعون عن "الحريات الفردية"، فواضحةٌ في ضمان هذه الحريات وحمايتها باعتبارها من حرية الإنسان. وتجلى التنصيص على هذه الحرية في أهم المواثيق الدولية، من الوثيقة العظمة في إنكلترا المعروفة بـ (Cart Magna)، حتى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وما تفرّع عنه من مواثيق وقوانين دولية، تخص الحريات والحقوق الفردية.
ويقع الخلاف بين الفريقين حول تعريف هذه الحريات، ووضع حدودٍ لها. وإذا كان تعريفها وحدودها واضحيْن في القوانين والمواثيق الدولية، فإن تعريفها وترسيم حدودها كان ومازال موضوع جدل في الفكر الإسلامي التراثي والحديث منه، بين الفقهاء والفلاسفة والمفكرين المسلمين. فإذا كان الإسلام قد رفع من شأن الفرد وحقوقه، إلا أنه جعل حريته مرتبطةً بالخضوع والعبودية للإله. وفي الحياة العملية، تم تغليب، حتى لا أقول استغلال، جانب العبودية لتقييد الحرية. وهكذا، سعى العقل الفقهي الإسلامي، بواسطة الفتاوي ومن خلال نصوص المحاكم الشرعية، إلى "تنظيم" الحياة الاجتماعية داخل المجتمعات الإسلامية، لضبطها والتحكّم في أفرادها. كما عملت السلطة السياسية، سواء كانت دينية أو تدّعي أنها تستند إلى شرعيةٍ دينية، داخل المجتمعات نفسها على ربط تعاليم الدين بالطاعة، من خلال سن قوانين وضعية، مرجعيتها إسلامية، لتقوية نفوذها.
لكن، يبقى الأصل والقاعدة في الإسلام تقديس حرية الشخص، واحترام حياته الخاصة. وفي هذا الصدد، تروي كتب التراث رواية منسوبة إلى عمر بن الخطاب عندنا، كان رفقة أحد الصحابة يتجوّل على عادته في أحياء المدينة ليلاً، فسمع أصوات ندماء في جلسة خمرية. وفي إحدى الروايات، أنه أراد تسوير بيتهم، لكن الصحابي الذي كان يرافقه نبهه إلى أن في ذلك "تجسّسا" عليهم، وهو ما ينهى عنه الإسلام، فتراجع عمر عن قراره. وفي رواية أخرى، أن عمر، وكان خليفة المسلمين، تسوّر البيت الذي كانت تأتي منه الأصوات المرتفعة، حتى فاجأ صاحبه وهو يقارع الخمر، فمسكه وهو يتوعده لما وجده عليه من معصيةٍ، فرد عليه الرجل "وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علىّ، إن أكن عصيت الله واحدةً، فقد عصيت الله فى ثلاث، قال: (ولا تجسّسوا)، وقد تجسّست، وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها)، وقد تسورت عليّ، وقد دخلت علىّ بغير إذن وقال: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم، حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)". ويحكى أن عمر عفا عنه، وخرج من بيت الرجل وهو يعض يده، بسبب ما اقترفته من خلاف للشرع!
وفي حادثةٍ أخرى، تُبيّن مدى قدرة الاجتهاد عندما يأتي من السلطان على استنباط الأحكام مع
التقيد ظاهرياً بالنصوص وبروحها. وتتعلق الحادثة بالخليفة المنصور، ثاني الخلفاء في الدولة العباسية، ويُحكى أنه كان يوجد في عصره شاعر سكّير مدمنٌ على الخمر، يدعى ابن هرمة، ومن كثرة مجونه وعربدته، كان دائماَ يعرّض نفسه للجلد من الشرطة في ذلك العهد، وحدث أنه جاء يوماً مجلس الخليفة، ومدحه بقصيدة، فسأله الخليفة عما يريد جزاءً له على قصيدته، فكان جواب الشاعر أن طلب من الخليفة أن يكتب إلى عامله في المدينة أن لا يُجلد مرة أخرى إذا وجد سكراناً. وحتى يوفق الخليفة بين طلب الشاعر وعدم مخالفته الشرع، كتب إلى عامله يقول له أن يأمر بضرب الشاعر، إذا جيء به إليه سكراناً ثمانين جلدة، وأن يضرب من أتي به إليه مئة جلدة، لتعديه على حرية الشاعر الشخصية، وتدخله في حياته الخاصة. وتروي كتب التاريخ أن ابن هرمة سلم، منذ ذلك اليوم، من عقاب الشرطة وتتبعها له، بل وكان كلما سكر يبدأ في الصراخ: "من يريد أن يشتري مئة بثمانين؟".
نحن اليوم في حاجةٍ إلى مثل هذا الاستنباط الذكي لروح النصوص الشرعية، لنرتقي بها إلى المرجعيات الكونية التي بات من المفروض علينا التعايش معها، إذا أردنا أن نتقدّم بمجتمعاتنا، وهذا واجب السياسيين، لكنه أيضاً واجب الإسلاميين المتنورين، ليقوموا بخطوةٍ إلى الأمام، لتجاوز عثرات النصوص التي يستعملونها اليوم لمهاجمة خصومهم، لكنها قد ترتد عليهم في كل لحظةٍ لمحاصرتهم والتسبّب في سقوطهم.
وتكمن أهمية هذا النقاش المثار حالياً في موضوعه الذي طالما شكل نقطة خلافٍ حسّاسة بين الإسلاميين من جهة واليساريين والعلمانيين من جهة أخرى في المغرب. فكثير من الإسلاميين ما زالوا يعتبرون أن موضوع الحريات الفردية إنما هو حصان طروادة الذي يستعمله الغرب، ومن يتبنون أفكاره من ديمقراطيين وعلمانيين وليبراليين ويساريين وحداثيين، لتهديم المجتمعات الدينية وتخريبها من الداخل. وهم غالباً ما ينطلقون من معاداتهم الحريات الفردية من منطلق أخلاقي، كون أن الإسلام دين أخلاق بالدرجة الأولى، والقرآن الكريم، عدا أنه كتاب عقائد وعبادات ومعاملات، فهو أيضا كتاب أخلاق، جاء "يهدي للتي هي أقوم". من دون الإشارة إلى السيرة النبوية التي جعلت من موضوع الأخلاق أحد أهداف الرسالة النبوية نفسها، بدليل الحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن منظور كل إسلامي، وضع الإسلام لـ "الحياة الخاصة" للإنسان حرمةً نصّت عليها تعاليم الإسلام، سواء التي نصّ عليها النص القرآني صراحةً، أو التي وردت في الأحاديث والسيرة النبوية، من حرمة المسكن، وحماية الأعراض، والابتعاد عن رمي المحصّنات، وحفظ الأسرار، وأمانة الرسائل.. إلى غير ذلك مما يدخل في الحياة الخاصة للفرد التي يُعتبر احترامها من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الإسلام، باسم الامتثال لـ "الأخلاق الحسنة".
لكن "الحياة الخاصة" ليست سوى فرعٍ من أصل، هو الحريات الفردية التي تشمل حرية الفكر
أما القوانين والشرائع الدولية التي يستند إليها المدافعون عن "الحريات الفردية"، فواضحةٌ في ضمان هذه الحريات وحمايتها باعتبارها من حرية الإنسان. وتجلى التنصيص على هذه الحرية في أهم المواثيق الدولية، من الوثيقة العظمة في إنكلترا المعروفة بـ (Cart Magna)، حتى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وما تفرّع عنه من مواثيق وقوانين دولية، تخص الحريات والحقوق الفردية.
ويقع الخلاف بين الفريقين حول تعريف هذه الحريات، ووضع حدودٍ لها. وإذا كان تعريفها وحدودها واضحيْن في القوانين والمواثيق الدولية، فإن تعريفها وترسيم حدودها كان ومازال موضوع جدل في الفكر الإسلامي التراثي والحديث منه، بين الفقهاء والفلاسفة والمفكرين المسلمين. فإذا كان الإسلام قد رفع من شأن الفرد وحقوقه، إلا أنه جعل حريته مرتبطةً بالخضوع والعبودية للإله. وفي الحياة العملية، تم تغليب، حتى لا أقول استغلال، جانب العبودية لتقييد الحرية. وهكذا، سعى العقل الفقهي الإسلامي، بواسطة الفتاوي ومن خلال نصوص المحاكم الشرعية، إلى "تنظيم" الحياة الاجتماعية داخل المجتمعات الإسلامية، لضبطها والتحكّم في أفرادها. كما عملت السلطة السياسية، سواء كانت دينية أو تدّعي أنها تستند إلى شرعيةٍ دينية، داخل المجتمعات نفسها على ربط تعاليم الدين بالطاعة، من خلال سن قوانين وضعية، مرجعيتها إسلامية، لتقوية نفوذها.
لكن، يبقى الأصل والقاعدة في الإسلام تقديس حرية الشخص، واحترام حياته الخاصة. وفي هذا الصدد، تروي كتب التراث رواية منسوبة إلى عمر بن الخطاب عندنا، كان رفقة أحد الصحابة يتجوّل على عادته في أحياء المدينة ليلاً، فسمع أصوات ندماء في جلسة خمرية. وفي إحدى الروايات، أنه أراد تسوير بيتهم، لكن الصحابي الذي كان يرافقه نبهه إلى أن في ذلك "تجسّسا" عليهم، وهو ما ينهى عنه الإسلام، فتراجع عمر عن قراره. وفي رواية أخرى، أن عمر، وكان خليفة المسلمين، تسوّر البيت الذي كانت تأتي منه الأصوات المرتفعة، حتى فاجأ صاحبه وهو يقارع الخمر، فمسكه وهو يتوعده لما وجده عليه من معصيةٍ، فرد عليه الرجل "وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علىّ، إن أكن عصيت الله واحدةً، فقد عصيت الله فى ثلاث، قال: (ولا تجسّسوا)، وقد تجسّست، وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها)، وقد تسورت عليّ، وقد دخلت علىّ بغير إذن وقال: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم، حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)". ويحكى أن عمر عفا عنه، وخرج من بيت الرجل وهو يعض يده، بسبب ما اقترفته من خلاف للشرع!
وفي حادثةٍ أخرى، تُبيّن مدى قدرة الاجتهاد عندما يأتي من السلطان على استنباط الأحكام مع
نحن اليوم في حاجةٍ إلى مثل هذا الاستنباط الذكي لروح النصوص الشرعية، لنرتقي بها إلى المرجعيات الكونية التي بات من المفروض علينا التعايش معها، إذا أردنا أن نتقدّم بمجتمعاتنا، وهذا واجب السياسيين، لكنه أيضاً واجب الإسلاميين المتنورين، ليقوموا بخطوةٍ إلى الأمام، لتجاوز عثرات النصوص التي يستعملونها اليوم لمهاجمة خصومهم، لكنها قد ترتد عليهم في كل لحظةٍ لمحاصرتهم والتسبّب في سقوطهم.