27 أكتوبر 2024
الإسلاميون بين الرؤى الاختزالية والحلول الاستئصالية
بعد إطاحة الجيش المصري الرئيس محمد مرسي وسقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين، سارع بعضهم إلى تقديم تحليلات متسرّعة سطحية، وتصوّرات مبتسرة اختزالية، تنقصها الدقّة، ولا تقوم على أسس علمية راسخة، تحدثت عن أفول ظاهرة الإسلام السياسي ونهايتها، لاسيّما بعد الأداء الباهت، وربما البائس، لجماعة الإخوان المسلمين، بعد وصولها إلى سدّة السلطة، أول مرّة في تاريخها. وخرجت تلك التحليلات أقرب إلى الأمنيات، واتّشحت بقدر من تصفية الحسابات الأيديولوجية، وابتعدت عن الموضوعية.
اتّسمت تلك التحليلات بالتسطيح والتعميم، عندما وضعت كل الإسلاميين في سلّة واحدة، واعتبرتهم كتلة صمّاء مصمتة، كما أنها ساوت بين الحركات الإسلامية السلمية المعتدلة التي قبلت بالديمقراطية والحركات المتطرّفة العنيفة التي تتخذّ من العنف منهجاً وسبيلاً. وانطلقت من مقدمات خاطئة، قادتها بالضرورة إلى نتائج خاطئة، بعدما وقعت في خطأ منهجي كبير، عندما قصرت ظهور ظاهرة الإسلام السياسي على لحظة ظهور جماعات الإسلام السياسي، أو"الإسلام الحركي"، التي ظهرت في العام 1928، عندما أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
فبمطالعة تاريخ مصر الحديث، نجد أن للإسلاميين وجوداً ممتداً وحضوراً كبيراً، في كل فصول التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي المصري، فالذين حملوا راية المقاومة في وجه الحملة الفرنسية، وقادوا النضال ضدّها، كانوا من شيوخ الأزهر الذين هم، بطبيعة الحال، من ذوي التوجّه الإسلامي. والذين جاءوا بمحمد علي ونصبّوه على عرش مصر كانوا كذلك من الإسلاميين من رجال الزعامة الشعبية، الذين قادوا الثورة ضد الوالي العثماني، خورشيد باشا، كما أن عدداً من رجال الثورة العرابية كانوا معروفين بخطهم الإسلامي الواضح، ومن يطالع كتابات مصطفى كامل وبرنامج حزبه "الحزب الوطني" القديم، وكذلك كتابات خلفه محمد فريد، سيرى بوضوح المنزع الإسلامي الصريح لهما، وتأكيدهما على ضرورة العلاقة بين مصر والدولة العثمانية التي وصفاها بـ"العليّة"، في كتابيهما "المسألة الشرقية"، و"تاريخ الدولة العليّة العثمانية".
حالة الاختزال المنهجي امتدت كذلك إلى إغفال المدرسة الفكرية الحضارية التي أسسّها الإمام محمد عبده، وظهرت قبل المدرسة الحركية التي أسسّها حسن البنّا، والاختلافات والتمايزات بين المدرستيْن، من حيث أولوية الإصلاح الاجتماعي وتهيئة المجتمع للديمقراطية، أم العمل السياسي والوصول إلى سدّة السلطة وتغيير المجتمع من أعلى.
يقول المستشار طارق البشري: "إن كل تيار فكري، أو سياسي، إنما يحتوي على إمكانات غلو وإمكانات اعتدال. وإن الواقع المعيش أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها فيما يتضمنه هذا التيار، إن أياً من ذلك هو ما ينعش أياً من إمكانات الغلو أو الاعتدال أو يضمرها"
التيار الإسلامي، شأن أي تيار فكري آخر، يحتوي على عوامل انفتاح واعتدال، وعوامل تطرّف وانعزال، والواقع المعيشي هو الذي يتكفّل بدفع أيهما إلى صدارة المشهد، فمناخ الانفتاح القائم على الاحتواء والحوار من شأنه إنعاش عوامل الانفتاح والاعتدال وتنشيطها، وإخماد عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطها. وفي المقابل، يأتي مناخ الانغلاق القائم على القمع والرغبة في الاستئصال، ليكون من شأنه إنعاش عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطهما، وإخماد عوامل الانفتاح والاعتدال وتثبيطهما.
ويُخبرنا تاريخ الأزمات التي نشبت بين الدولة المصرية والإسلاميين، طوال العقود الماضية،
وتقول القاعدة إن قمع الحركات الإسلامية السلمية التي تقبل بالديمقراطية يصب في صالح السردية الجهادية التكفيرية التي تتخذ من العنف سبيلاً، ولا تعترف بالديمقراطية من الأصل، فإقصاء الحركات الإسلامية السلمية، ومواجهتها بالحل الأمني، من شأنهما توسيع الوعاء التجنيدي والحاضنة الشعبية للحركات الجهادية العنيفة، حيث تقول الثانية للأولى بلسان الحال، وأحياناً بلسان المقال: اعترفتم بالديمقراطية، وقبلتم بصندوق الانتخابات حَكَماً... فماذا كان مصيركم؟
لا شك أن الإسلاميين ارتكبوا أخطاءَ فادحةً في السنوات الماضية، استعدت عليهم فئات واسعة في الداخل والخارج، بعدما أثار خطاب الإسلاميين مخاوفها من "المشروع الإسلامي" الذي ظلّ مجرّد لافتة دعائية فضفاضة، تقوم على خطاب حشدي عاطفي، يتمركز حول تأكيد الهوّية وإحياء دولة "الخلافة" الامبراطورية، فما زال مشروع الإسلاميين أسير تصورّات تاريخية، من دون أي محاولات تجديدية، إلى جانب اصطدامه بفكرة الدولة الوطنية، إذ يختلط فيه ما هو "وطني" بما هو "أممي"، وهو ما يفرض عليهم الدخول في عملية واسعة من النقد الذاتي، وتقديم مراجعات فكرية، يستلزم حدوثها توفر مناخ مناسب، بعيداً عن مناخ القمع والاستئصال.
الإسلاميون جزء من تاريخ مصر، وجزء من المجتمع المصري، ومهما أنكر خصوم هذه الحقيقة، سيظل حضورهم السياسي والاجتماعي أمراً واقعاً يفرض نفسه، وكل محاولات استئصالهم محكوم عليها بالفشل، إلى جانب ارتفاع تكلفتها السياسية والاجتماعية.
يذهب بعضهم في كراهيته الإسلاميين إلى تحميلهم المسؤولية عن كل ما وقع من أخطاء، حتى يصل به الأمر إلى اعتقاد أن الإسلاميين أصل الداء وأساس البلاء ومنبع كل ما حاق بنا من مصائب وكوارث، ويتمنى أنه لو استيقظ يوماً فيجد مصر بدون إسلاميين أو منزوعة
ولو افترضنا، جدلاً، أنّ الإسلاميين جُمعوا في صعيد واحد، وأُريقَت عليهم مئات الغالونات من الوقود السريع الاشتعال، وأُضرِمَت فيهم النيران وأُحرِقوا جمعياً، كما يتمنى ذوو النزعة الاستئصالية، فإنهم، بعد فترة، سيعاودون الظهور بشكل جديد، لأن بذور وجودهم متجذّرة في التربة الحضارية للمجتمع، ومتغلغلة في النسيج الثقافي المصري. فنشأة الإسلاميين ووجودهم لا يرتبط بجماعة أو تنظيم، بقدر ما يرتبط بأسئلة بنيوية كبيرة، فشلت الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت في مرحلة ما بعد الحقبة الاستعمارية في تقديم إجابات لها، وهي أسئلة تتعلّق بالهوية الحضارية والموقف من التغريب وتذويب الذات الحضارية، ومدى حضور الدين في المجال العام والصراع التاريخي بين الوافد والموروث، وفضّ إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، وكل هذه الأسئلة ما زالت عالقة.
الإسلاميون تعبير عن "حالة حضارية" في المقام الأول، تمثّل تياراً اجتماعياً واسعاً ذا قواعد شعبية راسخة، وصيحة تحمل رغبة في إثبات "الذات الحضارية" وتأكيدها. وقد يخفت هذا الصوت باتجاه الاعتدال، أو يرتفع نحو التطرّف، وفقاً للظرف التاريخي بأبعاده السياسية والاجتماعية، ومدى احتواء الإسلاميين واستيعابهم سياسياً واجتماعياً، أو محاولة تهميشهم وإقصائهم، فضلاً عن استئصالهم، والحل الناجع، هنا، بالطبع ليس الأداة الأمنية، وهو يتجاوزالإدماج والمصالحة السياسية إلى ضرورة حدوث تسوية تاريخية، ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية وحضارية، تضع حداً لتلك الأزمة الكبيرة الممتدة منذ عقود بين الدولة المصرية والإسلاميين.