دفعت الأوضاع المتفجرة التي تشهدها مدينة القدس المحتلة منذ استشهاد الطفل المقدسي محمد أبو خضير على أيدي مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين، إلى إحداث تغيير جذري في سلوك الإسرائيليين حيال ما يسمونه "أمنهم الشخصي"، الذي بات مهدداً كما يقول كثيرون منهم، ومن بينهم وزراء ونواب كنيست. وهو ما عكسته تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حين قال أول من أمس "سنحارب الإرهاب في كل شارع من شوارع القدس".
كما نُقل أمس الأربعاء عن الوزير المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينت، دعوته الجيش إلى القيام بعملية سور واق في القدس، على غرار العملية التي نفذها جيش الاحتلال في الضفة الغربية، قبل أكثر من عشر سنوات، واجتاح فيها الضفة الغربية.
هذا التغير في السلوك حيال الأمن الشخصي لغالبية الإسرائيليين مرده تصاعد جذوة انتفاضة جيل جديد من الشباب الفلسطيني، الذي فقد الأمل في التسوية السياسية وبات يواجه تهديداً وجوديّاً غير مسبوق، ولا سيما مع تصاعد العنف الموجه ضده من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وتغولها عليه بالقتل والاعتقال والتنكيل. ويُضاف إلى ذلك تصاعد اعتداءات المستوطنين على الشباب. وبالتالي كان هذا التغول سبباً ليثور المقدسيون على واقعهم المرير.
وتجلى انعدام الأمن الشخصي لدى الإسرائيليين، ولا سيما في الأسبوعين الأخيرين، في تراجع أعداد من باتوا يفدون إلى البلدة القديمة من القدس كسياح وزائرين. ويُقصد بذلك القادمين من مدن بعيدة مثل تل أبيب. واضطر الواقع الأمني في القدس، وزارة المعارف الإسرائيلية أن تلغي عشرات الرحلات المدرسية المجانية لطلابها إلى القدس، بسبب تردي وضع الأمن فيها، وإمكان استهدافهم عبر هجمات للشباب المقدسيين المنتفضين الذين طوروا وسائل انتفاضتهم باستعمال المفرقعات النارية على نحو احترافي وعلى نطاق واسع، إضافة إلى وسائلهم القديمة من الحجر والحارقات والسكين.
ويرى أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة القدس، سمير شقير، أنّ "هذا الواقع بات يشكل تحديّاً أمنيّاً كبيراً للإسرائيليين سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الرسمي، الذي يرى نفسه أنه في خضم معركة كبيرة على القدس، كما ورد على لسان نتنياهو". ويعتبر شقير أنه "بالتالي من الطبيعي أن ينكفىء الإسرائيليون على المستوى الجمعي إلى الابتعاد عن واقع مليء بالمخاطر. وهو ما أكده الهجوم الفدائي في القدس أول من أمس، وما سبقه من هجمات بالدهس والطعن. وهي هجمات ضاعفت من الخوف لديهم ومن انعدام شعور الأمن".
وشكلت محاولة اغتيال الحاخام اليهودي المتطرف، يهودا غليك، عرّاب الاقتحامات اليومية للأقصى، مطلع الشهر الجاري على يد شاب فلسطيني سبباً في تراجع أعداد الإسرائيليين ولا سيما عناصر اليمين المتطرف الذين يشاركون في هذه الاقتحامات، على الرغم من تواصلها، وعلى الرغم من الحماية والحراسة الأمنية التي توفرها حكومتهم لهم.
ويؤكد أشرف أبو ارميلة، وهو مسؤول إحدى وحدات الحراسة في الأقصى، أنّ "أعداد المقتحمين منذ محاولة اغتيال غليك قد تراجعت إلى النصف تقريباً، لكن في المقابل شهدنا تغولاً من الأمن الإسرائيلي على المصلين المسلمين".
هذا التغول يفسره أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة القدس بشعور العجز عن توفير الأمن الشخصي للإسرائيليين الذي ينتاب المؤسسة الأمنية على الرغم من الموارد الضخمة التي وضعت تحت تصرفها، والدفع بالآلاف من عناصر الأمن إلى البلدة القديمة ومحيطها. ويشدد على أنّ "هذا دليل آخر يكشف انعدام الأمن على الرغم من كثافة صورته التي لم تضعف مقاومة المقدسيين ولم تكسر شوكة الشباب المنتفضين، بالرغم من اعتقال أكثر من 1400 شاب وفتى منذ اغتيال الشهيد محمد أبو خضير".
وحتى قبل أربعة أشهر، كان الإسرائيليون يتغنون بما سمّوه الأمن السائد في ما يعتبرونه عاصمتهم. واحتفل عمدة بلدية الاحتلال في القدس بتسيير شبكة الترام "القطار الخفيف" الذي أقيم على أراض فلسطينية مصادرة من بلدة شعفاط. وتحول هذا القطار إلى شبكة مواصلات رئيسية في المدينة، قبل أن تتراجع أهميته بصورة كبيرة بعد التحولات في الأمن الشخصي لركابه من الفلسطينيين الذين باتوا مستهدفين من قبل المستوطنين وحراس الأمن فيه، ثم ما لبث أن تحول إلى هدف مركزي لناشطي الانتفاضة المقدسيين الذين أشبعوا مقطوراته قذفاً بالحجارة والزجاجات الحارقة.
وبات لا يكاد يمر يوم من دون أن يتعرض إلى هجوم كان أوسعه نطاقاً وأكثره خطورة تحطيم بنيته التحتية، وإرغامه على التوقف عن العمل لأكثر من أسبوع. وقد ساهم ذلك في مزيد من تدهور أمن الإسرائيليين ولا سيما سكان المستوطنات اليهودية الواقعة شمال القدس المحتلة، قبل أن يجبروا على العودة مجدداً إلى استخدام الحافلات العادية. ولم تعد تُشاهِد فيه إلا أعداداً ضئيلة جداً من الركاب، زاد من مخاوفهم المواكبة الأمنية الكثيفة، التي لم تحد من هجمات الفلسطينيين.
كذلك، فإن حضور الإسرائيليين في مطاعم القدس المحتلة وفي أسواقها تقلّص أيضاً، بالمقارنة بما كان عليه الوضع قبل نصف عام. وهو ما يؤكده حسن أبو غربية، صاحب مطعم أبو حسين الشهير في شارع صلاح الدين في القدس.
ويلفت إلى أنّ رواد المطعم من الإسرائيليين في غالبيتهم من عناصر الشرطة العاملين في مركز شرطة الاحتلال في الشارع المذكور، في حين باتت أعداد أقل من الرواد الإسرائيليين ترتاد مطعم أبو شكري في شارع الواد بالبلدة القديمة من القدس، القريب من حارة الشرف أو ما يعرف الآن بالحي اليهودي، المتاخم للمسجد الأقصى.