الإرهاب ومسؤولية المسلمين

01 ابريل 2017
+ الخط -
أصبحنا نسارع، كلما جاء "خبر عاجل" بحوادث قتل جماعي في بلد غربي، مثل حادث مدينة سنسيناتي الأميركية الأحد الماضي أو في بريطانيا في الأسبوع الذي سبق، بالدعاء بأن يكون القاتل من غير المسلمين. ولحسن الحظ، فإن أخبار معظم هذه الحوادث لا تصل إلينا، وإلا لكنا أصبنا بمرضٍ من كثرة التوجس. فالمفارقة أن حوادث القتل الجماعي بلغت خلال شهر مارس/ آذار المنصرم وحده 14 حادثاً، قتل فيها 17 شخصاً، وأصيب خمسون غيرهم. وقد بلغ عدد ضحايا القتل بإطلاق النار في الأربعة وعشرين ساعة الأولى من هذا العام 210. وأذكر أنني أوصيت، في أول زيارة لمركز كارتر في أتلنتا لحضور مؤتمر حول الحروب الأهلية، بعد مطالعة خبر يحدّد ضحايا القتل في أميركا في ذاك العام بأكثر من 24 ألفاً، بضم الحالة الأميركية إلى جدول مداولاتنا، فهذا العدد يبلغ ثمانية أضعاف ضحايا واقعة برج التجارة العالمي!
الشاهد أن توصيف حادث قتل بأنه "إرهابي"، وخصوصا حين يرتكبه مسلم، تكون له دلالات مختلفة تماماً، فالرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، يرفض بعناد أن يسمح بأي قيود على حمل السلاح، ولكنه جعل مكافحة ما سماه "الإرهاب الإسلامي" أولوية الأولويات عنده، على الرغم من أن عدد ضحايا "الإرهاب" من الأميركيين لا يكاد يذكر مقارنةً مع ضحايا إطلاق النار، ولكن الرجل يصرّ، مثلاً، على حظر الهجرة من ديار الإسلام، على الرغم من أن الحد من بيع السلاح سيكون له أثر أكبر بكثير على سلامة مواطني الأميركيين من حظر الهجرة.
مهما يكن، فإننا أيضاً نتعامل بالانتقائية نفسها، ولكن بالمقلوب، فنتوجّس من كل حادثةٍ يكون
أحد أطرافها من المسلمين أو العرب، لعلمنا أنها في الحقيقة جريمة "ضد" أمتنا، فيما الأخرى جرائم ضد الأميركيين، فكون الجاني من منطقتنا أو ديننا، يهيّج المشاعر (المهيّجة أصلاً) ضد العرب والمسلمين، ويعزّز ما وقر في الصدور من تحيّز وحقد ضدهم. وعليه، فإن من واجب المسلمين، قبل غيرهم، تجريم مثل هذه الأحداث بصورة قاطعة، ليس فقط لأنها تضرّ بالمسلمين أكثر من غيرهم، بل لإشكالياتها الدينية والأخلاقية.
لا يجب مثلاً أن يكون هناك أدنى تردّد في إدانة حادثة الدهس أخيرا في لندن، وقبلها حوادث مماثلة في ألمانيا وفرنسا العام الماضي، باعتبار مثل هذا التعدّي على بشر مسالمين، لا يعرف الجاني عنهم شيئاً، من كبائر المنكرات. فهم في الحكم أبرياء، لا يستطيع القاتل أن يثبت عليهم جرماً، خصوصا أن بينهم الأطفال والمسنين والنساء. وبالتالي، فالجاني مرتكب جريمة الإبادة الجماعية، لأنه يكون كمن قتل الناس جميعاً حسب صحيح التنزيل، وهو بهذا خالدٌ مخلدٌ في النار، مهما ادّعى أنه مجاهد في سبيل الله.
وهناك جناية لا تقل شناعةً، وهي وصم المسلمين كأمة بالخيانة وعدم الصدقية. فإذا صحّ ما يقول به الجهاديون المزعومون إن من حق المسلم أن يتنكر في هيئة شخص مسالم، يطلب الأمان باللجوء أو الهجرة، وهو يضمر الشرّ والخيانة لمن آووه، فإن هذا يعني أن الإسلام يسمح بمثل هذه الخيانة، بل يأمر بها! وفي هذه الحالة، يكون ترامب، وغيره من الإسلاموفوبيين، على حق في زعمهم أن المسلمين قومٌ لا يؤمن جانبهم، إذا كان دينهم فعلاً يجيز لهم خيانة الأمانة، ويأمرهم بألا يرغبوا في جيرانهم إلاً ولا ذمة.
ونحن بالطبع نعلم أن هذا غير صحيح، ففي القرآن إدانة صريحة لبعض بني إسرائيل الذين احتجّوا بجواز خيانة الأمانة في حق غير المؤمنين. وقد وقع التأكيد على أن من يخون الأمانة بمثل هذه الذريعة، حتى لو كانت في دينار واحد، فإن الله لا يكلمه يوم القيامة، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم. فهذا في المال، فكيف في الدماء؟ وفي صحيح الحديث، أنه لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه.
السؤال هو، إلى أي مدىً ينجح المسلمون في تأكيد هذه القيم فيما بينهم؟ فمسلمون كثيرون لا
يرون بأساً بكثير من الخيانات "الصغيرة"، مثل التزوير في وثائق الهجرة وطلبات الضمان الاجتماعي بحججٍ متفاوتة. وبعضهم لا يرى بأساً بالخيانة والخديعة "النضالية"، إذا كانت القضية "عادلة" والهدف "مشروعاً"، بحجة أن الحرب خدعة. وهذا غير صحيح أيضاً، لأن الحرب لا بد أن تكون معلنة، والصفوف متمايزة. وفي القرآن نهيٌ عن الغدر والخيانة، حتى في حالة استباق خيانةٍ متوقعةٍ من الآخرين، وفرض إعلان الحرب قبل الشروع في أي أعمال عسكرية، خصوصا في حالة وجود معاهدة ("فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين"). وقد أجمع الفقهاء أن من دخل بلداً بأمان أهلها فقد تعهد ضمناً باحترام قوانينها وأمن أهلها، وأي مخالفةٍ لذلك غدر وخيانة.
إذن، لا بد من أن نصل إلى وضع تكون فيه قناعة بين عامة المسلمين بلاأخلاقية هذا النوع من الغدر، وليس فقط بعبثيته. صحيح أن مثل هذه الأعمال عبثيةٌ في قيمتها العسكرية، على الرغم من كارثيتها على سمعة المسلمين وأمنهم، فماذا يعني قتل بضعة أفراد في بلدٍ، مثل أميركا، ضحايا العنف فيه سنوياً بعشرات الآلاف، وضحايا حوادث السيارات وحدها تفوق الأربعين ألفاً؟ ولكن ليست هذه هي القضية، بل المحور هو المنكر الديني والأخلاقي في مثل هذه الخيانة والعدوان على الأبرياء المؤمنين. وعليه، هناك واجبٌ على المسلمين، تجاه أنفسهم قبل غيرهم، لإنكار وإدانة مثل هذه الكبائر، والبراءة منها، من منطلق ديني وأخلاقي يحصّن شبابنا ومجتمعاتنا منها. فلا يكفي أن نقول إن الإرهاب ليس من الإسلام في شيء، بل لا بد من إثبات ذلك لأنفسنا أولاً، وبدون أي ظلالٍ من شك أو ذرائع تبريرية أو استثناءات.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي