الإرهاب والجنس.. إعلام الإثارة بعد السياسة
يقول عنوان الصحيفة المصرية إن القوى الأمنية عثرت على "فخ دعارة ومتفجرات" في أحد الأحياء الراقية في القاهرة. الخبر، بعنوانه المثير، مرفق بصورة لا تقل إثارة، وهو يجمع عنصري الإثارة الأبرز في التغطية الإعلامية راهناً: أخبار الجنس التي عادت تشكل مادة دسمة يومية في الصحف ومواقع الإنترنت، وأخبار مكافحة الإرهاب التي لا تقل إثارة من سابقتها، مع احتكار داعش و"أفلامها المثيرة" الغالبية العظمى للأخبار عن العالم العربي في الإعلام العالمي. موجة شعبوية اجتاحت التغطية الإعلامية، وصولاً إلى صحف عرفت، سابقاً، برصانتها، استقطبت فيها أخبار الجنس قسطاً من المساحات المفردة للمعارك السياسية، والتي باتت، على ما يبدو، أقل إثارة لمستهلكي هذه الوسائل الإعلامية. عناوين الإثارة المبتذلة باتت مادة يومية عادية: "مباحث الآداب تضبط فتاتين: الشكل من روسيا والأصل من فيصل" (شارع في القاهرة)، أو "ربة منزل تمارس الرذيلة مع عامل"، أو "رجل شرطة يعيد عذرية شابة..."، ... لا حدود لقدرة هذه الصحف والمواقع الإلكترونية على ابتذال المضمون الإعلامي للوصول إلى قراء، ولا تخرج عن هذا التهافت على القارئ الخفيف صحفٌ، عرفت سابقاً برصانة ونخبوية لم تتوان عن تبخيس تقاليدها العريقة إرضاء لهذا القارئ.
لا يوازي الولع الإعلامي بنشر أخبار الجنس، المفبركة في غالبيتها، سوى ولع مشابه بنشر أخبار حملات مكافحة الإرهاب، في ما لا يقل ابتذالاً وخروجاً عن قواعد التغطية الإعلامية المهنية. تخصص وسائل الإعلام التي ترى أن دورها الاساسي دعم القوى الأمنية، في حربها ضد الجماعات المسلحة، حيزاً مهماً لمتابعة أخبار هذه الحملات، في ما من شأنه أن يرفع من معنويات القوى الأمنية، ويؤكد تفوقها. لا شيء يقف أمام ولع هذا الإعلام في تسجيل "السبق الصحافي" في متابعة الأخبار الدموية لهذه الحملات، كما في إشهار الولاء والتأييد للمنظومة الأمنية. بات أمراً عادياً أن تتصدر الصفحات الأولى للصحف صور جثث ممزقة لإرهابيين مفترضين، مرفقة بعناوين براقة حول إنجازات القوى الأمنية، في خطاب دعائي تأجيجي، يدعو إلى المزيد. كما بات تقليداً أن تنشر صور وأسماء من يلقى القبض عليهم، باعتبارهم "إرهابيين"، ومن دون انتظار صدور قرار قضائي، أو تحقيق قبل تصنيفهم في خانة الإرهاب، مع ما يعني ذلك من تبعات عليهم وعلى عائلاتهم.
في الجبهة المقابلة، تفوقت داعش في سباق الإثارة، لتمنح وسائل الإعلام مادة فريدة للعنف، في أكثر أشكاله سادية، مع بث فيديوهات "مبتكرة" في فنون قتل ضحاياها، واستعراض بطشها، ما من شأنه أن يبثّ الرعب ممزوجاً بالإثارة لدى قراء بعض وسائل الإعلام التي تعيد نشر هذه المواد، مع مجرد تحذير من أنها تحتوي على مواد عنف. لا يقل تعاطي وسائل الإعلام مواد العنف هذه ابتذالاً، إذ تعيد بث هذه المواد على أنها منتج إخباري عادي، يحتوي بعض مشاهد العنف. تفوقت داعش أيضاً في استلهامها أنماط هذا الإعلام، إذ حولت معتقليها إلى مراسلين صحافيين، يدافعون عن حجة الجماعة في وجه أنظمة بلادهم، ويبررون البتر المقبل لرقابهم على يدها. ويبدو فيلم الفيديو للمصور الصحافي البريطاني، جون كانتلي، سوريالياً، الصحافي المخطوف على يد داعش ينتقد حملة الغرب على المجموعة، كما ينتقد ما يسميه غياب إعلام الغرب عن تغطية المعارك العنيفة للسيطرة على كوباني، متبعاً أسلوب التغطية من مناطق النزاعات التي يقدمها هذا الإعلام. في الشريط الذي يستغرق أربع دقائق، يبدو أداء المراسل المخطوف ما طلب منه تقديمه مقنعاً جداً.
وراء هذا المشهد الملتهب بالدم والإثارة المبتذلة، تأتي أخبار حملات السياسة المحتدمة، وتأتي خلفها بمسافة كبيرةٍ، أيضاً، وبشكل محدود أخبار انتهاكات أنظمةٍ، لا تزال ترتكب يومياً جرائم مقذعة في حق شعوبها. لم نعد نعرف كثيراً عن براميل البارود اليومية التي يلقيها نظام الأسد على شعبه، أو أعمال العنف على يد ميليشيات ليبيا، أو اعتقالات الآلاف في سجون مصر.
مشهد إعلامي شعبوي ملتهب، يعيدنا إلى ما كان عليه الوضع، قبل أن تصبح السياسة مادة الإعلام الرئيسية، بعد انفتاح المجال السياسي في الأعوام الأولى لما بعد الثورات العربية. توحي هذه التغطية بما يؤكد الصورة المقولبة عن العالم العربي: مزيج من تحجر اجتماعي، محوره الجنس والحريات الشخصية وإرهاب المجموعات المتطرفة التي ترى العنف وسيلةً وحيدةً لمقارعة أنظمة تتستر بالعلمانية، لتبرير سياساتها القمعية. وإلى أن يشبع هذا الإعلام نهمه من الإثارة، تبقى أخبار الناس العاديين ومشكلاتهم مؤجلة، أو هامشية في أفضل الأحوال.