الأيديولوجيا الثورية ونزعة التدمير
في عام 2000، وبعد سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، بدأ رجال الدين الأفغان، والمهاجرون إليهم المتشددون، حملة واسعة للقضاء على شرائح المجتمع الأفغاني غير الإسلامية. قامت وقتها الحركة بتهجير آخر من تبقوا من البوذيين، كما حرّمت الموسيقى والغناء والشعر، وحظرت الصور، وشنت حملة لتكسير التلفزيونات في البلاد، وصدر بيان موقع من نحو 400 شيخ إسلامي أفغاني بتحريم التماثيل التي اعتبروها ضد تعاليم الإسلام. وأصدر وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يومها، قراراً ببدء تنفيذ هدم التماثيل. كان تمثالا بوذا الضخمان، المنحوتان على منحدرات وادي باميان في منطقة هزراستان وسط أفغانستان، والموجودان هناك منذ القرن السادس الميلادي في منطقة على خط الحرير العالمي أصبحت بعدها من محميات منظمة اليونسكو العالمية، هما القصد من وراء القرار. وبالفعل، بعد عام واحد، وتحديداً في 2 مارس/آذار 2011، استخدمت "طالبان" الصواريخ المضادة للطائرات في تفجير التمثالين، لكن الصواريخ شوّهت التمثالين من دون أن تحطمهما، فما كان من "طالبان" إلا أن استخدمت الديناميت المضاد للدبابات، ونجحت معه في تدمير التمثالين بشكل كامل. وقد تحطم التمثالان من الأسفل، من زرع الديناميت تحت الأرض. التمثالان عريقان في القدم، يلزم لتدميرهما ما يأتيهما من العمق نفسه، خطة لوجستية كلاسيكية للتدمير، تتسق مع كلاسيكية الفن في شكل التمثالين. تحطم التمثالان، على الرغم من اعتراض "اليونسكو" ومناشداتها لوقف هدم هذا التراث الإنساني، البالغ الأهمية، ولكن من دون فائدة.
أثبتت الأيديولوجيا، وقتها، المالكة سلطة السلاح، أنها أقوى من الإنسانية والفن والجمال. بعد ستة أشهر تماماً، في 11 سبتمبر، قامت مجموعة من تنظيم القاعدة الذي أنشأته المخابرات الأميركية في أقبيتها لمواجهة الاتحاد السوفييتي وتمدد الشيوعية عقب احتلاله أفغانستان، قامت بعملية تدمير موازية لتدمير تماثيل بوذا، وإن اختلفت دلالاتها. كان برجا التجارة العالميان في نيويورك من المعالم التي تعتز أميركا بهما، فهما أولى ناطحتي سحاب بنيتا في العالم، كان البرجان رمزين لتفوق أميركا الاقتصادي، ورمزين للذهنية الرأسمالية، الراغبة في السيطرة عبر المال والاستهلاك وتسليع العالم، وتحويله إلى سوق للشركات التجارية العابرة للقارات والدول. خطة تدمير برجي التجارة كان فيها من الخيال الحداثي ما يذهل، أن تجعل الطائرة تصطدم بالبرج، أي أن تحطمه من الأعلى. خطة تدميرية تتسق مع الحداثة الصناعية والرأسمالية التي تتباهى أميركا بالتفوق بها. تدمير برجي التجارة لم يكن يحتاج إلى فتاوى دينية.. كان يحتاج عقلاً يفلت نزعة التدمير من عقالها، هذا الفلتان وفّره تسليع العالم والفقر وتعميم الظلم وسيطرة الاستبداد والتجهيل وسياسة الأقطاب العالمية، ووفرته أجهزة مخابرات عالمية، ترى فيه ورقة مهمة، يمكنها استخدامها في الوقت والمكان المناسبين.
هذه الأحداث التي حصلت قبل عقد وقليل من الزمن كانت البداية لما يحدث الآن. يومها، لم يكن ثمة "فيسبوك" يفضح آراء البشر، المعنيين وغير المعنيين بهذا الحدث أو ذاك. لم نستطع معرفة كيف يفكر المؤيدون لهدم تماثيل بوذا تطبيقاً للشريعة الإسلامية، ولا كيف يفكر الفرحون بتدمير برجي التجارة نكاية في أميركا. لم يكن ثمة "فيسبوك" ولا "تويتر"، وقتها، لندرك أن النزعة التدميرية لصيقة بالوجود الإنساني، ومتأصلة في عمق النفس البشرية إلى هذا الحد، وأن كل محاولات الوعي للتستر عليها أفشلها لون الدم، حتى قبل أن يتحول إلى لون مشاعي، كما هو عليه في هذا الوقت.
الآن، ومع تعميم "فيسبوك" وسهولة التعبير عن الرأي والإفصاح عن الرغبات دونما رقابة مباشرة مسلطة على الوعي، ظهرت هذه النزعة التدميرية بأبهى حالاتها وتجلياتها، فالدمار اللوجستي العنفي الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة والمرتبطون والمتشبهون بها، تحت تسميات مختلفة: تدمير معاقل الإرهابيين والخونة، وتدمير مدنهم ومستقبلهم ورغبة الحياة بداخلهم، بذريعة الانتماء للوطن والأمة، أو تدمير كل ما يمت للحداثة بصلة في الحياة والمجتمع وطرائق التفكير والسلوك اليومي، بذريعة الانتماء للدين والشريعة. هذا الدمار اللوجستي ترافقه نزعة تدميرية من نوع آخر، تتجلى في تدمير التاريخ الجمعي الثقافي والفني الإبداعي للبشرية، بذريعة إعادة إنتاج ثقافة جديدة، وطرح أسئلة ثقافية متسقة مع الثورات. لا بأس، قد تكون الذريعة محقةً فيما لو تم وضع قيم جديدة للإبداع، منبثقة من هذه الثورات، والتعامل معها كمنهج جديد لتقييم الإبداع القادم. أما المطالبة بنسف الإبداع البشري، لأنه لا يتسق مع الرؤية السياسية والأيديولوجية، المطلوبة الآن، فهو انحياز جارف للنزعة التدميرية التي لا يمكنها التأسيس للمستقبل.
"يمكن تبرير تدمير برجي التجارة في نيويورك، باعتبار أن الذهنية الأميركية ألحقت الظلم بملايين البشر، ولا يمكن لوم من يرى فيها معلماً وتراثاً إنسانياً أو معمارياً |
مع رحيل كل مبدع عربي اليوم، يطالعنا أصدقاء مثقفون برغبتهم حذف تاريخ هذا المبدع من تاريخ الإبداع البشري، لأن موقفه من الثورات لم يكن أخلاقياً، أو لم يعط رأيا إيجابياً بالثورات، أو صمت تماماً. أيضاً، لا بأس، ويمكن تفهم السبب. ولكن، في هذا الطلب مطبات عديدة، أولاً: طلب كهذا يعطي الحق لأصحاب النظريات الراديكالية المتطرفة بنسف الإبداع والفن والجمال كله، وتحريمه، لأنه مخالف أيديولوجياتهم. وحالياً، هم من يملكون القوة والحق بذلك، لامتلاكهم السلاح وسيطرتهم على الأرض. ثانياً: في مطلب كهذا، قسر للتاريخ القادم، ولما سيقوله عن هذه الثورات، وتحميله رأياً إيديولوجيا آنياً، قد يغيره الزمن والتاريخ، فما نراه صحيحاً، اليوم، ونرى فيه الحقيقة، قد يراه التاريخ بطريقة مغايرة. ثالثاً: في مطلب كهذا، يتم نفي الإبداع عن ذاته كإبداع، وإحالته إلى السياسة والأيديولوجيا. وهذا لا يعني، هنا، تبني نظرية الفن للفن، بقدر ما يعني تخليص الإبداع والفن من شوائب السياسة والاحتفاء به، قيمة جمالية، تضيف إلى الكون ما يساعد على تعميم السلام والطمأنينة على مساحته كلها. رابعاً: في مطلب كهذا، يتم التعامل مع المبدعين، بصفتهم أنبياء، متطهرين من كل الشوائب والضعف والهشاشة البشرية، وهو غير صحيح وغير إنساني، ويكرس مفهوم النخبوية التي يحاربها دعاة هذا المطلب. خامساً: في مطلب كهذا، يتم تحويل الإبداع من دوره التغييري التراكمي، عبر تكريس الوعي الجمالي في مواجهة قباحة العنف إلى دور شعبوي، منفعل ومنحاز للتدميرية التي يعممها العنف المقصود، ورد الفعل الغريزي عليه.
والحال هكذا، ومع ذكر المطبات السابقة، يمكن تبرير تدمير تماثيل بوذا ومعابده في أفغانستان، في تلك المرحلة، باعتبار أن ملايين البشر يرون في التماثيل مخالفةً شرعية لما يعتقدون، ويمكن تبرير تدمير برجي التجارة في نيويورك، باعتبار أن الذهنية الأميركية ألحقت الظلم بملايين البشر، ولا يمكن لوم من يرى فيها معلماً وتراثاً إنسانياً، أو معمارياً، يمكنه أن يكون دليلاً أبدياً على الحضارات المتعاقبة على البشرية.
قلت لصديق من أصحاب هذا المطلب: بالنسبة لي، خوان ميرو المؤيد بشدة للفاشية هو أهم فناني العالم قاطبة. وأنا أتأمل لوحاته، أصاب بفرح استثنائي، يجعل يومي مريحاً، ويمنحني الطاقة نفسها التي تصل إلي، حينما أسمع موسيقى فاغنر، المتعجرف والأناني والمتماهي مع هتلر، أو عندما أقرأ قصيدة عذبة من قصائد سعيد عقل، العنصري البغيض والمتعجرف المجنون الذي تعامل مع نفسه بصفته إلهاً. في الحالات الثلاث، لا أرى في العالم غير الجمال المضاد لقبح الفاشية وأشباهها. هل لأنني هكذا أكون من الخائنين لأيديولوجيا الثورة؟