الأهداف الخفيّة لغزو العراق واحتلاله
إذا كان غزو الولايات المتحدة الأميركية العراق، واحتلاله، العام 2003 مثّل عودة الاستعمار الفعلية إلى الوطن العربي، فإن حالة التراجع، في مسارات الحياة كافة، والتي أحدثتها هذه "العودة" هي الأوضح على أرض الواقع. وقد عمدت هذه "القوّة الغازية" إلى تغيير كل ما كان قائماً عليه، بعملية تخريبٍ منظم، وتعريض مؤسساته الثقافية، ومنها المتاحف، لنوعين من عمليات التخريب: النهب المنظّم، والآخر العشوائي.
وقد جرى ذلك لمتاحف الآثار، ومراكز الفنون، ودور الكتب، والمؤسسات العلمية، بما سيؤدي إلى إحداث شرخٍ حضاري واضح في البُنى الثقافية، والعلمية، والاجتماعية، ومحاولة إحلال بديلٍ، لا يتوفر على أبسط خصائص التكوين الحضاري.
غير أَن العراق، في هذا، لم يكن (ولن يكون) إِلا "الصورة/النموذج" للحال الجديدة التي سيؤول إليها مستقبل غير قطر عربي يجري احتلاله، لا من طريق "حملة عسكرية"، كما حصل للعراق/ ومع العراق، وإنما بدخوله من باب "فرض الإرادة" و"التطويع الممنهج" الذي يحقق لعودة الاستعمار هذه ما تحمل من هدف، أو تترسم من غاياتٍ لم نلمس منها، في المستوى العراقي، سوى التراجع في واقع الحياة والإنسان بعامة. فقد توقفت التنمية الاقتصادية، بعد أَن شلّتها سنوات الحصار العجاف، كما تعطل الفعل الثقافي والمعرفي، لتأخذ الثقافة نفسها، في حياة المجتمع، بتوجهاتٍ لا علاقة لها بأي ضرب من ضروب البناء المعرفي.
وسيشهد المجتمع حالةَ تراجعٍ مخيفة، ومهدِّدة للمستقبل الاجتماعي، إذ أصبحت القيمة المرتبطة بالمعرفة، والصادرة عما هو معرفي غير مطلوبة، ومعها غدت "القوة المحركة" للمجتمع قائمةً على "تبني الأوهام" أَكثر من اندفاعها بالحقائق الجديدة، حتى ليبدو وكأن المستقبل حسم "مسألة التطور"، بكونها تأتي من "هناك"، وليس من الحاضر.. الأمر الذي جعل مدينةً مثل بغداد، بتاريخها الحضاري العريق، مدينة تعيش حالة انفصال خطير عمّا لها من تاريخ، ومن بنيةٍ واقعيةٍ معاصرة. وكان هذا هو الهدف الأساس للحرب على العراق، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية (1980ـ 1988)، وحرب الكويت (1991)، ثم حرب الحصار(1991ـ 2003)، والتي كان الهدف والغاية الخفية منها إنهاء وجود "الدولة القوية" التي يمكن أن تلعب دوراً سانداً للواقع العربي، في تحقيق تنمية شاملة فيه، يمكن أن تقلّص من النفوذ الاقتصادي الغربي فيه.
ولم يكن المحتل الأميركي وحده، أو بذاته، من فعل ذلك، وإنما وقفت معه أطراف مشاركة، هي من عُرفت بـ"أطراف العملية السياسية" التي سرقت من التقدم عناوينه، واضعةً تحتها "مضامينها الخاصة"، ومخضعةً تمثيلاتها لأسوأ حالات القبول التي يفرضها المحتل على بلدٍ، وقع تحت هيمنته:
ـ فالتغيير الذي يتم رفعه شعاراً يمضي في حال تعتمد، أكثر ما تعتمد، تغيير المفهومات، بما لها من دلالة واقعية...
ـ والتحوّل الذي يتم الايهام بأنه يجري واقعاً، يذهب باتجاه المفارقة لكل نزعةٍ عصرية، والعودة الى الماضي والتلفّع بأكفانه.
ـ وإعادة النظر التي تُوهمُ بالتغيّر والتبدّل، بينما هي، في حقيقتها، لم تكن سوى التعطيل لكل مسار، والتوقف عن أي بناء..(وهو الهدف الأول، والأهم، للاحتلال).
هنا حصل التراجع:
ـ تراجع المدينة (بغداد) عن مشروعها الثقافي والحضاري. فبديل أَن تكون هناك محركات حضرية جديدة، نجد العملية الجارية قائمةً على "الترييف"، من خلال نقل عادات الريف وتعارفاته المجتمعية إلى حياتها، فيتمّ التحوّل من "القوانين" إلى "الأعراف" التي يستبدّ بها "التسيّد" و"الفصل" عُرفياً...
وتراجع الوعي العام، والتطويق القسري للإرادة المجتمعية، ليصبح التخلف، في بنيته هذه، هو "الوعي الجديد" الذي يحكم.. وأَمامه يتخلى كل شيء في المجتمع عن خصائصه، وتجري عمليات الهدم والإزالة، بدعوى "التغيير"، لكل ما تتمثّل فيه روح المدينة، ويعكس جوهر وجودها التاريخي. أَما "التخطيط" الذي يجري الإعلان عنه، فلا علاقة له بما هو حضري، وإنما يمثّل حالة اتباع لـ"صيغ بيئية" متخلفة... ولمثل هذا التوجّه هدفه البعيد، وهو: التغيير الديمغرافي في كيانية المدينة.
وما يثير الأسى أن يقف مع الأطراف المشاركة في عملية "التخريب المنظّم" هذه "مثقفون" جعلوا من دورهم "دور تلقٍ وامتثال"، لا دور تأسيسٍ ومساعدةٍ في البناء على أسس حضارية، وكأن هذا "المثقف" لم يقطف من ثمار التطور المعرفي في عالم اليوم شيئاً، فضلاً عن أنه، كما يبدو، يعيش انقساماً على الذات: فبديل أن يتّبع في "صياغة التعدد" منحى المدارس الفكرية التي كانت مصدر تحوّل وتقدم في حياة المجتمعات والأمم، نجده ينحرف، بمفهوم التعدد هذا، واضعاً إياه في أشد صيغه تخلّفاً وتراجعاً تاريخياً... فهو اليوم "مثقف الطائفة"، "الفرقيّ النزعة والنزوع"، "الاثني التوجّه". وما يبحث عنه من "عِرق" غالباً ما يكون موهوماً، أو متوهَماً، لا يتوفر على شرطٍ من شروط التاريخ، أَو ما هو تاريخي. وعلى هذا، نجده أَقرب إلى "كتاب بسيط" الرؤية والمضمون، لا يضم بين دفتيه شيئاً من رؤيةٍ حقيقيةٍ للمستقبل، وعن المستقبل.. وإنما هناك "مفهومات" و"رؤى تخييلية" زائفة تاريخياً نجد هذا "المثقف" يتبناها، مستجيباً بذلك لـ"مشاعر تاريخية"، لا تمثّل أكثر من وعي زائف، وسلبية تاريخية إزاء مفهوم البناء الجديد للمجتمعات، تاريخية الرؤية والتكوين.
ما تمرّ به بغداد اليوم هو حالة افتراق عن ذاتها التاريخية، ثقافياً وحضارياً. فالانفصال الحاصل في بنية واقعها الاجتماعي عن كل ما لها من موروثٍ ثقافيٍ وحضاريٍ يجعل من حالة التراجع التي تعيش عامل تهديد لكل ما فيها، أَو ينتمي إليها: من الثقافة بتعدد فروعها الإنسانية والجمالية، إلى الفكر بتكويناته العقلية. أما حلم بعض المثقفين بإنشاء فضاءاتٍ جديدةٍ للثقافة، بعد دخول المحتل الأميركي العراق، وما فتح من "آفاق موهومة" للحرية، بما فيها "حرية التعبير"، فإنهم سرعان ما وجدوا الواقع الذي وضعوا أنفسهم فيه لا يجيب إجابةً واضحةً عن أيّ من تساؤلاتهم.. فضلاً عن أنهم وجدوا هذا الواقع لا يستجيب للتطور، وفاقاً لما كانوا يأملون. فالأطر التي وُضعت، والممارسات التي تمت، وتتم، كانت قد استبعدت كل قيمةٍ حقيقيةٍ لما أوهمت به من عناوين كبيرة (كالديمقراطية، والحرية، والمجتمع المدني).. حتى بِتنا اليوم في واقعٍ يخلو من أي رؤيةٍ مستقبليةٍ ذات سياقات حضارية التكوين.. ما جعل بغداد تبدو اليوم مدينةً بلا ثقافة ـ بالمعنى/ البعد الجوهري للمدينة الثقافية، كما تعيّنت تاريخياً.