تشغلني إشكالية الحوار مع الآخر؛ الآخر المختلف الذي يساهم في التعريف عن "أنواتنا". إذ أعتبر نفسي من مناصري تمجيد ذلك الحوار المعرفي المرموق، الجاري بين الذات والآخر. ذلك "الآخر" الذي انتقيناه بعناية، بصفته ذاتاً مثقفة ومبدعة في آن؛ ومن خلال متابعة اكتشاف "الذات" لاهتمامات "الآخر"، في ما يخصّ رؤية الأخير لـ "الآخر" المختلف ثقافيًا وجغرافيًا وإثنيًا؛ وكيفية تعاطيه لحلّ إشكالات الفهم الخاصّ والمتفرّد للإرث الحضاري المغاير. وهذا الأمر يتطلّب توظيف مقاربات فكرية، تنشد رؤية الحدث كما هو، لا كما يتعيّن له أن يكون، وعبر "ميكانيزم" أو آلية، مفهوم "التأويل" الذاتي، المؤسّس لفعل الحوار الحضاري الرفيع، الذي تعود نتائجه التطبيقية بفائدة إبستيمولوجية ومهنية أيضًا، على كلا طرفي الحوار.
نحن نتحدّث عن مقاربة مبنية على التفاعل الثقافي، وتكافؤ الخصوصيات الثقافية المتنوعة، والابتعاد قدر الإمكان عن ممارسة الإلغاء والإقصاء والاختزال جانباً. والحرص على فهم "الآخر" وثقافته وبالتالي عمارته - وهي مهنتي الأثيرة، من دون حاجة لهيمنة، أو التشبّث بنزعة الانطواء وإهمال "الآخر" وتجاهل منجزه الثقافي - المعماري.
وقد ساهم في تسريع إيجاد تلك المقاربة وأكّد حضورها في المشهد الثقافي العالمي، مسعى تيارات ما بعد الحداثة التائقة إلى تأسيس كيان معرفي متكامل، يتوافق منجزه مع ظهور واقعٍ جديدٍ وملموس تأسّس بفضل النجاحات التي أحرزتها الثورة العلمية – التكنولوجية، ووفرة المعلومات وتزايد الاتجاه نحو العولمة.
تنزع رؤى المعماريين المهتمين بالمقاربة الثقافية التي نحن بصددها، إلى التعاطف ومن ثم القبول بنتائج فعالية التهجين المعماري، الفعالية المعنية بتراكب مرجعيات ثقافية مختلفة، لإنتاج منجز معماري جديد، غالبًا ما تكون لغته التصميمية على أيدي المعماريين الجادّين، ذات حضور مميّز في الخطاب المعماري، جرّاء انتماء عناصره التكوينية إلى خصوصية أجواء الثقافات المشاركة في عملية التهجين. لكننا يتعين أن نشير بأن بلوغ ذلك المنجز المتفرّد، كان دائمًا رهنًا بحضور حالتين، أولاهما؛ التحقّق من عدم تسييد أو أفضلية ثقافة على أخرى، وثانيهما التسليم بظاهرة أوجه الاختلاف بين تلك الثقافات، ليتسنّى بعد ذلك، الدنو بسلاسة إلى تخوم المشاركة الفعّالة في ذلك المنجز. ويعد حضور هاتين الحالتين، أمرًا لا مندوحة عنه، لجهة إتمام مهام عملية التثاقف بصيغتها الإبداعية.
اقرأ أيضاً: فواز طرابلسي: الأمل لا يعني التغاضي عن الانتكاسات
من جانب آخر، تغدو ظاهرة الانزياح المعماري نحو "الجنوب"، التى نرصد موجتها الواسعة الان والتى بدأت حركتها في العقود الاخيرة الماضية، وكأنها تؤسس لمنتج معماري بخصائص معينة تتجاوز المرجعيات التى شكلتها طبيعة الثقافات الوطنية والقومية. بمعنى آخر، ان المنتج المعماري الجديد وان انتمى الى خصوصيات ثقافية معينة ومختلفة، فانه في ذات الوقت يسعى الى تجـاوزها فـي آن واحد. وهذا المنهج المركب الجدلي الذي يعتمد على مفهوم "الانتماء والتجاوز"، هو الذي يسم الفعالية الابداعية الخاصة بسمة الفرادة والتميزّ. فمن جهة يحرص المعماريون الغربيون العاملون في مناطق غير غربية، (وكذلك المعماريون غير الغربيين العاملين في بلاد اخرى غير بلادهم) الى ان تكون قراراتهم التصميمية منسجمة مع تنظير مستقى من خزين معرفي وجمالي محدد. بيدان توظيف مثل تلك القرارات اياها في فضاءات آخرى، وفي مواقع مغايرة كان يتطلب في كثير من الاحيان تصويبا وتعديلا مستمرين لسنن ذلك التنظير واشتراطاته؛ اي ان ثمة حراك لجدلية دائمة تتجاذب نوعية القرارات المنتمية الى اصول معرفية معينة، من ناحية، ومن ناحية آخرى، هناك الرغبة في مواءمة تلك القرارات مع اشتراطات المكان الجديد والعمل على انسجامها مع طبيعة المناخ والبيئة الثقافية المغايرة، ويتم ذلك من خلال تجاوز "دوغماتية" التشبث النصي في ادراك مفهوم تلك القرارات وعدم التسليم بمصداقيتها المطلقة.
د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي عراقي
نحن نتحدّث عن مقاربة مبنية على التفاعل الثقافي، وتكافؤ الخصوصيات الثقافية المتنوعة، والابتعاد قدر الإمكان عن ممارسة الإلغاء والإقصاء والاختزال جانباً. والحرص على فهم "الآخر" وثقافته وبالتالي عمارته - وهي مهنتي الأثيرة، من دون حاجة لهيمنة، أو التشبّث بنزعة الانطواء وإهمال "الآخر" وتجاهل منجزه الثقافي - المعماري.
وقد ساهم في تسريع إيجاد تلك المقاربة وأكّد حضورها في المشهد الثقافي العالمي، مسعى تيارات ما بعد الحداثة التائقة إلى تأسيس كيان معرفي متكامل، يتوافق منجزه مع ظهور واقعٍ جديدٍ وملموس تأسّس بفضل النجاحات التي أحرزتها الثورة العلمية – التكنولوجية، ووفرة المعلومات وتزايد الاتجاه نحو العولمة.
تنزع رؤى المعماريين المهتمين بالمقاربة الثقافية التي نحن بصددها، إلى التعاطف ومن ثم القبول بنتائج فعالية التهجين المعماري، الفعالية المعنية بتراكب مرجعيات ثقافية مختلفة، لإنتاج منجز معماري جديد، غالبًا ما تكون لغته التصميمية على أيدي المعماريين الجادّين، ذات حضور مميّز في الخطاب المعماري، جرّاء انتماء عناصره التكوينية إلى خصوصية أجواء الثقافات المشاركة في عملية التهجين. لكننا يتعين أن نشير بأن بلوغ ذلك المنجز المتفرّد، كان دائمًا رهنًا بحضور حالتين، أولاهما؛ التحقّق من عدم تسييد أو أفضلية ثقافة على أخرى، وثانيهما التسليم بظاهرة أوجه الاختلاف بين تلك الثقافات، ليتسنّى بعد ذلك، الدنو بسلاسة إلى تخوم المشاركة الفعّالة في ذلك المنجز. ويعد حضور هاتين الحالتين، أمرًا لا مندوحة عنه، لجهة إتمام مهام عملية التثاقف بصيغتها الإبداعية.
اقرأ أيضاً: فواز طرابلسي: الأمل لا يعني التغاضي عن الانتكاسات
من جانب آخر، تغدو ظاهرة الانزياح المعماري نحو "الجنوب"، التى نرصد موجتها الواسعة الان والتى بدأت حركتها في العقود الاخيرة الماضية، وكأنها تؤسس لمنتج معماري بخصائص معينة تتجاوز المرجعيات التى شكلتها طبيعة الثقافات الوطنية والقومية. بمعنى آخر، ان المنتج المعماري الجديد وان انتمى الى خصوصيات ثقافية معينة ومختلفة، فانه في ذات الوقت يسعى الى تجـاوزها فـي آن واحد. وهذا المنهج المركب الجدلي الذي يعتمد على مفهوم "الانتماء والتجاوز"، هو الذي يسم الفعالية الابداعية الخاصة بسمة الفرادة والتميزّ. فمن جهة يحرص المعماريون الغربيون العاملون في مناطق غير غربية، (وكذلك المعماريون غير الغربيين العاملين في بلاد اخرى غير بلادهم) الى ان تكون قراراتهم التصميمية منسجمة مع تنظير مستقى من خزين معرفي وجمالي محدد. بيدان توظيف مثل تلك القرارات اياها في فضاءات آخرى، وفي مواقع مغايرة كان يتطلب في كثير من الاحيان تصويبا وتعديلا مستمرين لسنن ذلك التنظير واشتراطاته؛ اي ان ثمة حراك لجدلية دائمة تتجاذب نوعية القرارات المنتمية الى اصول معرفية معينة، من ناحية، ومن ناحية آخرى، هناك الرغبة في مواءمة تلك القرارات مع اشتراطات المكان الجديد والعمل على انسجامها مع طبيعة المناخ والبيئة الثقافية المغايرة، ويتم ذلك من خلال تجاوز "دوغماتية" التشبث النصي في ادراك مفهوم تلك القرارات وعدم التسليم بمصداقيتها المطلقة.
د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي عراقي