19 أكتوبر 2019
الأمن في منطقة الساحل وتعدد المبادرات
لمّا تتعدد المبادرات الإقليمية للأمن والتعاون في أي منطقة، فمن المفروض أن يكون ذلك دلالة على وعي دولها بضرورة التعاون الإقليمي، صيانة لأمنها القومي أيضاً. لكنها غالباً ما تعبر عن تنافس، متفاوت الحدة، بين دول المنطقة. فضلاً عن ذلك، تعدد المبادرات يجعل الدول المعنية تتخلى عن مبادرات سابقة، بمجرد ظهور عقبة أو إعلان مبادرة جديدة، والنتيجة أنها لا تنجح، لا في مساعيها السابقة ولا اللاحقة. وقد يحتدم التنافس إلى درجة أن كل دولة تريد أن تكون لها مبادرتها الإقليمية. والنتيجة هي هدر للوقت والجهود الإقليمية وازدواجية في العمل (آليات إقليمية عدة تهتم بالمنطقة نفسها، وبالقضية نفسها، من دون تنسيق وتعاضد للجهود)، فيما تتفاقم الأزمات العابرة للأوطان، والتي لا تجد من يتكلف بها بجدية وبمواظبة.
ولا تشذ منطقة الساحل عن هذه القاعدة. فأول مبادرة ساحلية-صحراوية كانت المجموعة الاقتصادية للدول الصحراوية-الساحلية (تضم 28 دولة إفريقية)، والتي تأسست بمبادرة ليبية، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وتضم كل الدول المغاربية، ما عدا الجزائر. والسبب امتعاض الأخيرة من دور معمر القذافي الذي عمل على إجهاض مساعيها في تسوية مشكلة الأزواد في مالي والنيجر ومجهودها الإقليمي، ذلك أن الجزائر نظمت لقاءين لدول الساحل، في منتصف تسعينيات القرن الماضي. لكن، لم يكن لهذه المجموعة تأثير يذكر على الأوضاع
الإقليمية، بسبب تقلب مزاج القذافي، واختلاف وحتى تناقض المصالح بين معظم أعضائها.
ومع تصلب عود الفواعل ما دون الدولة في منطقة الساحل والصحراء، بداية من مطلع العقد الحالي، وخصوصاً مع الأزمتين الليبية والمالية، ظهرت إلى الوجود أطر عدة للتعاون الإقليمي، لكنها تبقى، هي الأخرى، من دون تأثير حقيقي على مجرى الأحداث. ونكتفي هنا بثلاث مبادرات إقليمية.
أولها مبادرة دول الميدان التي ظهرت في 2010، على أساس مقترح جزائري. وتضم كلاً من الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا. لكنها لا تضم لا تونس ولا المغرب. فالأخير استبعدته الجزائر من مبادرة دول الميدان، بدعوى أنه ليس بلداً ساحليّاً. وتهدف هذه المبادرة إلى إرساء التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، لاسيما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وتعد هذه المبادرة أول إطار إقليمي للتعاون، يستند إلى بعد عملياتي واضح. حيث زودت بقيادة أركان مشتركة (لجيوش الدول المشاركة)، مقرها تامنراست (أقصى الجنوب الجزائري)، ووحدة الإدماج والربط، وهي ببنية استخباراتية، مهمتها التعاون بين أجهزة الاستخبارات الوطنية، وتقاسم المعلومات المتعلقة بالشبكات الإرهابية والجريمة المنظمة. وتضم هذه الوحدة (مقرها الجزائر) ثمانية دول: الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو وتشاد وليبيا ونيجيريا. وتتعاون هذه الوحدة الاستخبارية مع المركز الإفريقي للدراسات حول الإرهاب (مقره الجزائر) التابع للاتحاد الأفريقي.
ثانيها عملية نواكشوط التي أطلقتها لجنة الاتحاد الأفريقي للسلم والأمن في مارس/آذار 2013، والهادفة إلى تعزيز التعاون الأمني بين 11 دولة أفريقية (الجزائر، بوركينافاسو، كوت ديفوار، غينيا، ليبيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال وتشاد)، لكنها لا تضم لا تونس ولا المغرب.
وآخر مبادرة ظهرت هي مجموعة 5-الساحل التي تضم موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد، وتروم إلى الأهداف نفسها، أي محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. وتتميز هذه المجموعة الجديدة باشتراكها في خصائص عدة، وبضعف دولها وغياب قوة إقليمية بين أعضائها. لكنها تنفرد عن غيرها من المبادرات من حيث ارتباطها وتعاونها الواضح مع قوى خارجية، لاسيما فرنسا. حيث تعد دول هذه المجموعة شريكاً قويّاً لفرنسا في عملياتها العسكرية في الساحل. وبلغت درجة التناغم السياسي بينها وبين فرنسا إلى درجة أن المجموعة دعت في منتصف ديسمبر/كانون أول 2014، إلى تدخل دولي في ليبيا، في وقت كانت تعمل فيه الحكومة الفرنسة على تسويق فكرة التدخل، حتى لا تتحول ليبيا إلى معقل للإرهابيين على حد قولها. وقد أثار هذا الموقف الساحلي حفيظة الجزائر التي تتحرك لإيجاد تسوية سلمية في ليبيا، رافضة أي تدخل أجنبي. ومن ثم، يمكن القول إن هذه المبادرات المتعددة تحمل، في جوفها، بذور فشلها، ولا يمكنها تجاوز تناقضاتها. فموريتانيا مثلاً تقول بالتعاون الإقليمي، في إطار مبادرة دول الميدان، وفي الوقت نفسه، تقول بالتدخل في ليبيا في إطار مجموعة 5-الساحل.
وخلاصة القول إن كل هذه المبادرات التي توحي، من الوهلة الأولى، بتكفل دول المنطقة بمشكلاتها الأمنية، لم يكن لها أي تأثير يذكر على مجرى الأحداث، لا في ليبيا ولا في مالي ولا في غيرها. بل يبقى مصير المنطقة مرتبطاً، في جزئه الأكبر، بقرارات قوى خارجية، حتى وإن كانت الأخيرة بحاجة إلى غطاء إقليمي، وإلى تعاون دول المنطقة، وهو تعاون غالباً ما يتحول إلى مناولة أمنية. ثم إن اتفاق دول المنطقة على ضرورة محاربة الإرهاب لا يعني، بالضرورة، تعاونها واتفاقها على كيفية محاربته، وعلى طبيعة ودرجة التعاون مع قوى خارجية. بل يمكن القول، إن الخلاف حول طبيعة/درجة العلاقة مع الآخر غير الإقليمي أصبح عقبة أمام أي تعاون إقليمي جدي، خصوصاً أن تبادل المعلومات الاستخباراتية، الذي هو عصب محاربة الإرهاب لا يمكن أن يتم في غياب الثقة المتبادلة.
ولا تشذ منطقة الساحل عن هذه القاعدة. فأول مبادرة ساحلية-صحراوية كانت المجموعة الاقتصادية للدول الصحراوية-الساحلية (تضم 28 دولة إفريقية)، والتي تأسست بمبادرة ليبية، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وتضم كل الدول المغاربية، ما عدا الجزائر. والسبب امتعاض الأخيرة من دور معمر القذافي الذي عمل على إجهاض مساعيها في تسوية مشكلة الأزواد في مالي والنيجر ومجهودها الإقليمي، ذلك أن الجزائر نظمت لقاءين لدول الساحل، في منتصف تسعينيات القرن الماضي. لكن، لم يكن لهذه المجموعة تأثير يذكر على الأوضاع
ومع تصلب عود الفواعل ما دون الدولة في منطقة الساحل والصحراء، بداية من مطلع العقد الحالي، وخصوصاً مع الأزمتين الليبية والمالية، ظهرت إلى الوجود أطر عدة للتعاون الإقليمي، لكنها تبقى، هي الأخرى، من دون تأثير حقيقي على مجرى الأحداث. ونكتفي هنا بثلاث مبادرات إقليمية.
أولها مبادرة دول الميدان التي ظهرت في 2010، على أساس مقترح جزائري. وتضم كلاً من الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا. لكنها لا تضم لا تونس ولا المغرب. فالأخير استبعدته الجزائر من مبادرة دول الميدان، بدعوى أنه ليس بلداً ساحليّاً. وتهدف هذه المبادرة إلى إرساء التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، لاسيما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وتعد هذه المبادرة أول إطار إقليمي للتعاون، يستند إلى بعد عملياتي واضح. حيث زودت بقيادة أركان مشتركة (لجيوش الدول المشاركة)، مقرها تامنراست (أقصى الجنوب الجزائري)، ووحدة الإدماج والربط، وهي ببنية استخباراتية، مهمتها التعاون بين أجهزة الاستخبارات الوطنية، وتقاسم المعلومات المتعلقة بالشبكات الإرهابية والجريمة المنظمة. وتضم هذه الوحدة (مقرها الجزائر) ثمانية دول: الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو وتشاد وليبيا ونيجيريا. وتتعاون هذه الوحدة الاستخبارية مع المركز الإفريقي للدراسات حول الإرهاب (مقره الجزائر) التابع للاتحاد الأفريقي.
ثانيها عملية نواكشوط التي أطلقتها لجنة الاتحاد الأفريقي للسلم والأمن في مارس/آذار 2013، والهادفة إلى تعزيز التعاون الأمني بين 11 دولة أفريقية (الجزائر، بوركينافاسو، كوت ديفوار، غينيا، ليبيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال وتشاد)، لكنها لا تضم لا تونس ولا المغرب.
وآخر مبادرة ظهرت هي مجموعة 5-الساحل التي تضم موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد، وتروم إلى الأهداف نفسها، أي محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. وتتميز هذه المجموعة الجديدة باشتراكها في خصائص عدة، وبضعف دولها وغياب قوة إقليمية بين أعضائها. لكنها تنفرد عن غيرها من المبادرات من حيث ارتباطها وتعاونها الواضح مع قوى خارجية، لاسيما فرنسا. حيث تعد دول هذه المجموعة شريكاً قويّاً لفرنسا في عملياتها العسكرية في الساحل. وبلغت درجة التناغم السياسي بينها وبين فرنسا إلى درجة أن المجموعة دعت في منتصف ديسمبر/كانون أول 2014، إلى تدخل دولي في ليبيا، في وقت كانت تعمل فيه الحكومة الفرنسة على تسويق فكرة التدخل، حتى لا تتحول ليبيا إلى معقل للإرهابيين على حد قولها. وقد أثار هذا الموقف الساحلي حفيظة الجزائر التي تتحرك لإيجاد تسوية سلمية في ليبيا، رافضة أي تدخل أجنبي. ومن ثم، يمكن القول إن هذه المبادرات المتعددة تحمل، في جوفها، بذور فشلها، ولا يمكنها تجاوز تناقضاتها. فموريتانيا مثلاً تقول بالتعاون الإقليمي، في إطار مبادرة دول الميدان، وفي الوقت نفسه، تقول بالتدخل في ليبيا في إطار مجموعة 5-الساحل.
وخلاصة القول إن كل هذه المبادرات التي توحي، من الوهلة الأولى، بتكفل دول المنطقة بمشكلاتها الأمنية، لم يكن لها أي تأثير يذكر على مجرى الأحداث، لا في ليبيا ولا في مالي ولا في غيرها. بل يبقى مصير المنطقة مرتبطاً، في جزئه الأكبر، بقرارات قوى خارجية، حتى وإن كانت الأخيرة بحاجة إلى غطاء إقليمي، وإلى تعاون دول المنطقة، وهو تعاون غالباً ما يتحول إلى مناولة أمنية. ثم إن اتفاق دول المنطقة على ضرورة محاربة الإرهاب لا يعني، بالضرورة، تعاونها واتفاقها على كيفية محاربته، وعلى طبيعة ودرجة التعاون مع قوى خارجية. بل يمكن القول، إن الخلاف حول طبيعة/درجة العلاقة مع الآخر غير الإقليمي أصبح عقبة أمام أي تعاون إقليمي جدي، خصوصاً أن تبادل المعلومات الاستخباراتية، الذي هو عصب محاربة الإرهاب لا يمكن أن يتم في غياب الثقة المتبادلة.