يعقد مجلس الأمن الدولي، اليوم الخميس، جلسة مغلقة بطلب أميركي، لعرض تفاصيل خطة دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية. مهمة العرض ستكون ملقاة على كاهل جاريد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأميركي، والذي يتولى التسويق لما يسمى بـ"صفقة القرن".
وتأتي خطوة كوشنر استباقاً لتوجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى نيويورك يوم الثلاثاء المقبل (11 فبراير/ شباط الحالي) لإلقاء كلمة أمام مجلس الأمن يعلن فيها رفضه خطة الإملاءات. كذلك تتزامن جلسة الترويج لـ"الصفقة" اليوم مع تقديم تونس وإندونيسيا، العضوين غير الدائمين في مجلس الأمن، مشروع قرار وزّع أول من أمس الثلاثاء، على أعضاء مجلس الأمن، يعرب عن "الأسف الشديد" لأن "خطة السلام الأميركية في الشرق الأوسط"، المعروفة باسم "صفقة القرن"، تنتهك القانون الدولي من خلال تقويض حلّ الدولتين واحتمالات سلام عادل ودائم وشامل.
ويُضيف مشروع القرار الفلسطيني، وفق ما أوردته "فرانس برس"، أن الخطة التي كشف عنها ترامب في 28 يناير/ كانون الثاني تتعارض أيضاً مع قرارات الأمم المتحدة التي تمّ تبنّيها حتّى الآن، و"تُقوض حقوق" الشعب الفلسطيني و"تطلّعاته الوطنية، بما في ذلك تقرير المصير والاستقلال". ويؤكّد مشروع القرار "عدم شرعيّة أيّ ضمٍّ للأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة"، ويعتبر أنّ هذه الخطوة تشكّل "انتهاكاً للقانون الدولي".
وبعد إجراء مفاوضات، يُتوقّع طرح هذا النصّ على التصويت في مجلس الأمن خلال زيارة عباس إلى الأمم المتّحدة، وسط ترجيح اعتراض واشنطن عليه واستخدام حقّ النقض (الفيتو) لإسقاطه، فيما يقول دبلوماسيّون، بحسب ما ذكرته "فرانس برس"، إنّ الفلسطينيّين قد يسعون بعد ذلك إلى إجراء تصويت في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة (حيث لا يُمكن استخدام حقّ النقض)، على غرار ما حصل نهاية عام 2017، عندما تمّت إدانة اعتراف واشنطن الأحاديّ بالقدس عاصمةً لإسرائيل.
وصوّتت، آنذاك، جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن لصالح القرار، باستثناء الولايات المتحدة التي استخدمت الفيتو، مما منع تبنيه. لكنّ الجانب الفلسطيني أخذ مشروع القرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي قامت بتبنيه في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017. ورفض القرار الخطوة الأميركية بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ولا يحمل مشروع القرار الجديد لغة مباشرة تدين "الصفقة"، بل يعيد التركيز على ما تم تبنيه أصلاً والحديث عن التزام بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. فالخوف من أن أي لغة في القرار تسمي الصفقة بالاسم، ستعني عدم وقوف الدول الغربية خلفه، وخصوصاً بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، بحسب مصدر دبلوماسي غربي رفيع المستوى تحدث لـ"العربي الجديد". ولا ترغب لندن في الدخول بأي مواجهات مع الجانب الأميركي، إذ إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يجعل العلاقات مع الولايات المتحدة حساسة وضرورية أكثر. لكن على أرض الواقع، لن تقدم أي من الدول الغربية الفاعلة على خطوات تعاقب إسرائيل وخرقها المستمر لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة.
على الرغم من ذلك، لا تزال السلطة الفلسطينية تراهن على موقف المجتمع الدولي وتقول إنه ممثل بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة، والتي ما زالت سارية المفعول وملزمة لجميع الدول الأعضاء في المنظمة، بما فيها إسرائيل وأميركا، على الأقل نظرياً. وتشمل هذه القرارات حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، وحقّ تقرير المصير، واعتبار الضفة الغربية وغزة وشرقي القدس، حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، أراضي فلسطينية محتلة وعدم شرعية الاستيطان، بالإضافة إلى عدد من القرارات الأخرى. لكن "الشرعية الدولية" التي يتم التلويح بها والمراهنة عليها يجب ألا تقتصر على تلك القرارات، بل لعل الشق الأهم فيها هو لناحية التنفيذ. وإن كان من الضروري أن يستمرّ النضال الفلسطيني على ساحة المؤسسات الدولية، بما فيها محكمة الجنايات الدولية، غير أنّ الرهان على حصان الأمم المتحدة، هو رهان خاسر لأنه يرمي كل ثقله على حصان خارج السباق. لقد أثبت المجتمع الدولي، ولسبعة عقود، أنه غير راغب أو قادر على تنفيذ قراراته المتعلقة باستعمار فلسطين. ولعل الشقّ الأهم هو أنّ السلطة الفلسطينية تراهن على الأمم المتحدة وقراراتها، من دون أن يكون لديها استراتيجيات لمسارات موازية، مثل المقاومة الشعبية كورقة ضغط، وهي استراتيجية لا يمكن التخلي عنها حتى في زمن المفاوضات، وهو ما أظهرته تجارب شعوب أخرى من بينها الكفاح في جنوب أفريقيا ضدّ نظام الفصل العنصري، وكفاح قادة ناميبيا ضدّ احتلال جنوب أفريقيا لبلدهم.
كما أنّ الحديث عن القانون الدولي والعدالة وحقوق الإنسان في السياق الفلسطيني، لا يعني بشكل فوري أن يترجم ذلك إلى انتصار لقضية الفلسطينيين أو أن يترجم على أرض الواقع لصالحهم. ويجادل خبراء في هذا المجال بأن من الضروري العمل على استراتيجية سياسية تطوع القانون لصالح القضية الفلسطينية، بدلاً من استراتيجية قانونية تحدّد السياسة، وهو ما تقوم به السلطة الفلسطينية.
والسؤال هنا: ما هي استراتيجية السلطة الفلسطينية على مستوى الأمم المتحدة بعد الإعلان الأميركي- الإسرائيلي عن خطة تصفية القضية الفلسطينية المعروفة بـ"صفقة القرن"؟ وهل هي كافية؟ لقد عقد السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة، رياض منصور، عدداً من الاجتماعات مع مسؤولين في مقر المنظمة، من بينهم، رئيس مجلس الأمن لشهر يناير/كانون الثاني الماضي، ممثل فيتنام، دانغ دينه كوي، ورئيس الجمعية العامة للدورة الحالية، تيجاني محمد بندي، والمجموعة الآسيوية في الأمم المتحدة وغيرها. كما أعلن عن العمل على صياغة مشروع قرار لمجابهة الصفقة. هذا فضلاً عن عزم الرئيس الفلسطيني محمود عباس على السفر إلى نيويورك في الأيام المقبلة للحديث أمام مجلس الأمن. وقال منصور خلال تصريحات صحافية: "هناك إجماع دولي من كل مكونات الأمم المتحدة، لخّصه الأمين العام أنطونيو غوتيريس، في موقفه الذي يدعو إلى إنهاء الاحتلال، وإنجاز استقلال دولة فلسطين على حدود عام 1967 على قاعدة قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة"، مضيفاً أنّ "من يهمه الإجماع الدولي والقانون الدولي ومنظومة الأمم المتحدة والتعددية الدولية، عليه ألا يتردّد في الاستمرار في الدفاع عن الإجماع الدولي، في ظلّ هذا الهجوم ضده".
ولكن كيف يترجم هذا الاجتماع على أرض الواقع؟ إضافة إلى الولايات المتحدة، فإنّ الدول الأوروبية وروسيا وتركيا والصين وغيرها، مستمرة في علاقاتها العسكرية والاقتصادية والامتيازات التي تعطى لإسرائيل. لا بل إنّ ما يحدث على أرض الواقع هو الضغط المستمر على الفلسطينيين، وليس على المحتل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أبلغ الاتحاد الأوروبي أخيراً "شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية" بشروطه الجديدة لتقديم المساعدات الإنسانية، ومنها التزام المجتمع المدني بعدم تقديم خدمات أو تعامله مع الأشخاص والجماعات التي تصنف كـ"إرهابية" في قائمة الاتحاد الأوروبي. وهذه خطوة إضافية لتجريم المقاومة الفلسطينية، في حين لم تتوقّف صفقات السلاح والتجارة وغيرها مع حكومة الاحتلال.
حتى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، والذي قال السفير الفلسطيني إنّ بيانه يظهر موقفاً حاسماً في وجه "صفقة القرن"، لم يصدر بيانه إلا على شكل "ردّ على أسئلة صحافية"، وقد عنونه بذلك وأرسله مكتب المتحدث باسمه بالبريد الإلكتروني للمراسلين المعتمدين في الأمم المتحدة. وجاء البيان مقتضباً في ستة أسطر يؤكد فيها غوتيريس على التزام الأمم المتحدة بقراراتها والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بين الطرفين. وبدا أنّ البيان جاء لحفظ ماء الوجه أكثر من أي شيء آخر. فالرجل لا يجرؤ على انتقاد الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل صريح. وفي مقابلة خاصة مع "العربي الجديد" من نيويورك، وصف المدير التنفيذي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، كينيث روث، في وقت سابق، غوتيريس بأنه "مخيّب للأمل"، وقال إنه "غير مستعدّ للحديث بصراحة عندما تكون الدول التي تمارس اضطهادات بحق حقوق الإنسان ذات نفوذ، ويستخدم مصطلحات عامة وفارغة لا تسلط الضوء على الاضطهاد، ولا تشكّل ضغطاً على الدول التي تمارسه، وكأن شيئاً لم يحدث".
ولعل الجانب الفلسطيني يعوّل على عدم إعادة انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا أنّ هذا الرهان قصير النظر؛ أولاً لأنّ احتمال فوز الرجل بفترة أخرى قائم وقوي، وثانياً والأهم ربما، أنّ انتخاب رئيس ديمقراطي لا يعني بالضرورة التوصّل إلى أيّ تقدّم ملموس يؤدي إلى الضغط على إسرائيل للانخراط بمفاوضات جدية وإنهاء الاحتلال خلال فترة زمنية محددة. وهذا ما أثبتته كل فترات حكم الديمقراطيين، وآخرها تحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، إذ أثبتت ثماني سنوات من حكم الأخير مدى تخاذل الديمقراطيين وانصياعهم الأعمى وراء الساسة الإسرائيليين. وقد زاد أوباما حجم المساعدات العسكرية لدولة الاحتلال ليصل إلى 38 مليار دولار مقسمة على عشر سنوات، بدلاً من 30 ملياراً، وبدأ العمل بها عام 2018.
على صعيد الأمم المتحدة ومؤسساتها، حاربت الولايات المتحدة في عهد أوباما الديمقراطي كل مؤسسات المنظمة التي قبلت عضوية فلسطين، وأوقفت التمويل عنها، كما حدث عام 2011 مثلاً مع منظمة اليونيسكو. وعندما سمحت إدارة أوباما بتبني مشروع قرار يدين الاستيطان، في 23 ديسمبر/كانون الأول عام 2016، جاء ذلك قبل أسابيع من تسليمها الحكم لدونالد ترامب، وكان عدم استخدام حق النقض الفيتو وقتها، صفعة بوجه إدارة الأخير القادمة أكثر منه بوجه إسرائيل والاحتلال، إذ كانت إدارة أوباما قد استخدمت قبلها بسنوات الفيتو ضدّ مشروع قرار مشابه يدين الاستيطان ويؤكّد على عدم شرعيته في 18 فبراير/ شباط 2011. وفي حينه، صوتت لصالح القرار جميع الدول الأعضاء، باستثناء إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي وأفشلته بالفيتو.
وفي العام 2014، قدّم الأردن مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي في نيويورك يحدّد مهلة 12 شهراً للتوصّل خلالها وعن طريق المفاوضات، إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإنهاء الاحتلال. ولم تحتج الولايات المتحدة إلى استخدام الفيتو حينها، إذ حصل المشروع على تأييد 8 دول من أصل 15 بدلاً من 9 أصوات، وهو الحدّ الأدنى الذي يحتاجه أي مشروع لتبنيه، شريطة ألا تستخدم أي من الدول دائمة العضوية الفيتو. وشكّل ذلك انتكاسة للدبلوماسية الفلسطينية والعربية على وجه التحديد، في الأمم المتحدة، وأظهر الهوة التي بدأت تتسع حتى على صعيد الأمم المتحدة وقراراتها. وتمكّنت إسرائيل والولايات المتحدة من الضغط كي لا يحصل القرار على عدد كاف من الأصوات لتبنيه.
ويظهر مثال آخر خطورة المراهنة المستمرة على "المجتمع الدولي" والأمم المتحدة، من دون استراتيجية موازية على الأرض، واتساع الفجوة عند الدخول بالتفاصيل لقرارات وخطوات جديدة. ففي ديسمبر/كانون الأول عام 2018، تمكنت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة آنذاك، نيكي هيلي، من الحصول على تأييد 87 دولة من أصل 193 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمشروع قرار يدين المقاومة الفلسطينية المسلحة، وعلى وجه التحديد حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وعارضت القرار 58 دولة وامتنعت 32 عن التصويت، ولم يتم تبنيه لأنه لم يحصل على أغلبية الثلثين المطلوبة، ذلك أنه تمّ التصويت عليه تحت بند "الأمن والسلم الدوليين". وفي العادة يتم تبني قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية بسيطة، خمسين في المائة من الدول المصوتة +1. وعلى الرغم من عدم تبني القرار، إلا أنّ العدد المرتفع للدول التي خضعت للضغط الأميركي يظهر أن الأمور على المحك، ويمكن أن تنزلق إلى أماكن جديدة غير متوقعة حتى في الأمم المتحدة والجمعية العامة التي لا يتوقف المسؤولون الفلسطينيون عن التغني "بانتصاراتهم" فيها.
حتى المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تمّ تقليصها في أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، ناهيك عن وقف المساعدات الأميركية لمنظمة "أونروا" تحت حكم ترامب، وترك غزة محاصرة ليس من قبل الاحتلال فحسب، بل كذلك من الجهة المصرية، إذ لا تدخل أو تخرج إبرة إلا بموافقة سلطات الاحتلال. وهذا ينطبق على آلية "إعادة إعمار" غزة التي ربما من الأجدر وصفها بآلية "إبقاء غزة في غرفة الإنعاش". أمّا رئاسة فلسطين لمجموعة الـ77 + الصين، في الأمم المتحدة العام الماضي، فعلى الرغم من أهميتها الرمزية، فهي لم تكن لأكثر من سنة، إذ تتناوب الدول على ذلك، وقد انتهت في يناير الماضي، فيما كان تركيز السلطة الفلسطينية عليها يفوق أهميتها الفعلية والمستقبلية، ولا يمكن تفسيره إلا للاستهلاك المحلي.
يقول الجانب الفلسطيني إنه بعد الإعلان عن صفقة ترامب - نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية، لن يلتقي بأي من الساسة الأميركيين، ولكن هذا ما كان صرح به أيضاً في السنوات الأخيرة، وعلى لسان سفيره في الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة. فهل حدثت لقاءات لم يعلن عنها؟ أم أنّ هذا الإعلان مجرّد تكرار لواقع أغلقت فيه الولايات المتحدة حتى ممثلية المنظمة في واشنطن؟