الأكراد كأمّة.. العرب كطوائف
يتوافق عنوان المقال، إلى حدٍ كبير، مع نظرة الغرب إلى المنطقة. ربما لم تتغيّر هذه النظرة كثيراً، منذ الأيام الأخيرة للحكم العثماني للمشرق العربي. كما يتوافق، أيضاً، مع توق الأكراد إلى استقلال قومي، يحاولون توظيف الظروف واستغلال الظروف لتحقيقه. ويتوافق، وهنا المفارقة، مع نظرة عرب كثيرين إلى أنفسهم.
في المشهد الحالي للمشرق العربي، تقول الروايات إن "داعش السنية" طردت قوات نوري المالكي، رئيس الوزراء الشيعي للعراق، من "مناطق سنية" واسعة شمال العراق. والمرجعيات الشيعية، التي لم تدعُ إلى مقاومة الاحتلال الأميركي، دعت، هذه المرة، إلى حمل السلاح ومواجهة داعش. لكن، الغرب، بحساباته المعهودة، يبدو أنه حسم أمره في التعويل على الأكراد والبشمركة في القتال ضد داعش. فالولايات المتحدة تقصف جواً، وفرنسا تسلّحهم. السلاح يذهب إلى أربيل وليس إلى بغداد. تتصرف حكومة إقليم كردستان كحكومة دولة مستقلة، دولة تمثل أمة، دولة كردية تمثل الأمة الكردية.
لا تفكر هذه الأمة محبوسة داخل التقسيمات السياسية الاعتباطية التي حدثت في الماضي، فالأخبار تقول إن المقاتلين الأكراد يصلون من إيران لمساندة البشمركة في قتال داعش في العراق، ويتدفقون من تركيا لحماية الأكراد في سورية. إلى جانب هذا، علينا أن لا ننسى أن مسعود بارزاني يعيد ويزيد أن أكراد سورية مسألة قومية كردية، ويدعو إلى حماية كردية لهم.
هذه الطموحات الكردية تشبه المحاولات لتصحيح وضع خاطئ والتمرد عليه واستعادة حق مسلوب. الأكراد في هذه الحالة "أمة لم تنل حق تقرير مصيرها"، أمةٌ وزّعها الآخرون في أربع دول مستقلة، ليس بينها دولة كردية واحدة: إيران، تركيا، ودولتين عربيتين. الأكراد الذين يبلغون عشرات الملايين ويتحدثون لغتهم ويروون تاريخهم، يُعدون أقلية في الدول الأربع، يريد الأكراد، اليوم، الوصول إلى دولة الأكثرية الكردية، دولة الأكراد. يُعوّل الأتراك على ظروف المنطقة والفرص المتاحة. سقوط نظام صدام حسين كان فرصة كبيرة، والحرب على داعش فرصة أخرى. أما العرب الذين كانوا، منذ بداية القرن العشرين حتى الستينيات منه، أصحابَ مشروع استقلال قومي، صاروا أدوات في مشاريع الآخرين. المشروع الذي يملأ المشرق العربي، اليوم، هو مشروع الطوائف.
معاناة العرب اليوم، من الخارج، لم تعد محصورة فقط في إسرائيل وغطرسة الغرب وتغلغل إيران ونفوذ تركيا، بل يُضاف إليها الطموح القومي الكردي المتصاعد الذي يبحث في الأنحاء عن أصدقاء وحلفاء قد يجدهم من بين أعداء العرب. وبينما يبحث الساسة الأكراد عن حلفاء لمشروعهم القومي، يبحث عرب كثيرون (عامة ونخبة) في المشرق العربي عن طوائفهم. حين قرر الغرب محاربة داعش، وجد في الأكراد حليفاً، وأغلب الظن أن الأكراد سيقبضون ثمناً يخدم طموحهم، كما قبضوا ثمناً مشابهاً في العراق الجديد.
حين جرى الهجوم على العراق في 2003 وإطلاق العملية السياسية على يد بول بريمر، كانت القوى السياسية العراقية الجديدة تنقل التنوّع المذهبي للمجتمع العراقي إلى عالم السياسة، تسييساً للطائفة، ثم تعيده إلى المجتمع العراقي، شحناً طائفياً. وصل العراق الجديد، في بعض لحظاته، إلى ما يشبه الحرب الأهلية، حرب بين عرب العراق، السنّة والشيعة، بعضهم ضد بعض. أما أكراد العراق، فليسوا سنّة وشيعة، أكراد العراق هم أكراد العراق، وإقليم كردستان هو اللبنة الأولى في حلم الدولة الكردية.
يريد الأكراد أن يكونوا ضمن الموجات الحديثة للظاهرة القومية، قومية العالم الثالث، القومية التي غذّت النضال ضد الاستعمار، وغذّت حركات التحرر. بينما يكاد يخسر المشرق العربي، حتى قدرة الدولة القُطرية فيه على البقاء لصالح الطائفة والعشيرة، لصالح الهويات الأولية والوشائج العضوية، في حالة ينعدم فيها وصف الهوية السياسية بالسياسية.
أمام هذا المشهد الذي يتناقض فيه شقّاه، العربي والكردي، تتّضح أكثر فداحة الثمن الناتج عن فشل المشروع القومي العربي، وقبل أن نقول إن هناك قوى خارجية تآمرت على هذا المشروع، وسعت إلى إفشاله، علينا أن نقول إن هناك بين مَن مثّلوا هذا المشروع قد ارتكبوا الخطايا في حقه.
في أدبيات سياسية كثيرة دارجة، يوصف الأكراد بأيتام العالم، لكن الراهن في المشرق العربي يقول إن هؤلاء الأيتام وجدوا مَن يتبناهم، ويُنهي يُتمهم، هذا اليُتم قد يصيب بعض جيرانهم.
اليُتم هو الحالة التي يعيشها مشروع العرب القديم في العصر الحديث، مشروع الاستقلال والوحدة، حتى المشروعات الوطنية التي أنفقت عليها الأنظمة العربية الأموال، ووظفت لصالحها وسائل الإعلام والتعليم، تبدو واهنة اليوم، لصالح التنظيمات العابرة للدول والحدود.
تراكم خسائر المشروع القومي العربي، راكم فقدان الثقة لدى العرب في مشروعهم القومي، أما مكاسب المشروع القومي الكردي، فقد عزز ثقة الأكراد في مشروعهم القومي، وزاد من عزمهم على المضيّ فيه، هذا الفقدان وتلك الثقة يعززان لدى الغرب نظرته إلى الأكراد كأمة وإلى العرب كطوائف.
في كثير من أنحاء العالم، انتهى النقاش بشأن القومية والديمقراطية لصالحهما، وفي الوطن العربي، يبدو أن فشل المشروع القومي وتعثّر التحوّل الديمقراطي صار باهظ الثمن.