إن كان من رمزٍ للمقاومة الثقافية عن استحقاقٍ، فهو هذا الرجل.
حرصت دائماً على تجاهل ذكرى اغتياله، لسببين: إحساس عميق بلا جدوى الحرف أمام ما رسَم، وأبدعَ، وما يُشكّل، وما انتهى إليه؛ وعدم شعوري ـ حقيقةً ـ بأنه غائب. فهو حاضر بقوة، تتمدّد يوماً تلو يوم. وسيظل حاضراً ما بقيَ الفن المقاوم، والمعاني النبيلة. وما بقيت فلسطين على أهوالها، والمنطقة كذلك.
ذات يوم بعيد، قيل لي في غزة، إن قتلة ناجي العلي قدِموا مع قادمِي أوسلو، ويعيشون الآن بين ظهرانينا. وذكر لي القائل أسماء. تجرّعت غصتي وسكتّ، فقد كانت دماء أحد الصحافيين لا تزال طريّة ولم يُحرّك لا قلمٌ ساكناً، ولا قضاءٌ فتَح تحقيقاً.
هل مرّت سبعة وعشرون سنة حقاً؟ نعم ولا. وهل سيصمد غيره من "الرموز" و"الأيقونات" المدةَ ذاتها؟ لا أظنّ.
وسواء اغتالته إسرائيل أو ثوار المكاتب، فإنه باق فينا، أكثر من سواه حتى لو كانوا "نجوماً" و"أيقونات" على شساعة اليابسة واليباس العربيين.
ابن "الشجرة" هذا، العصيّ على الكهولة، فيه سرّ خفيّ. ما هو؟ لا أعرف ولا نعرف. فهو ناجي العلي وكفى.
ناجي الذي صنع، بأبيضه وأَسوده، بخيوطه الحادّة، بكُتلته، بظلاله، بحنظلته النضِر الباقي، ما لا يموت. ويوم نشعر أنّ شيئاً في رسوماته لم يعد يؤثّر فينا، ولم يعد يصل حنايانا سريعاً كالطلقة، فيتوجّب حينها أن نحملق في دواخلنا ونبحث عن العضو المعطوب في كياننا النفسي والجسدي.
لقد قُيّض لي أن أحتكّ وأتكلّم مع بعض أولئك "النجوم"، في ذلك الزمن الرمادي المتاهي، فلم أجد لا في سلوكهم ولا في الكثير مما كتبوا، صدقَ وبساطة وتعقيد واستشرافية وفرادة ناجي.
ناجي العلي، عن جدارة وعن أصالة، هو رسام كاريكاتيرنا الأول، من الماء إلى الماء. أقول قولي هذا، وفي البال ما فيه. وسأذكر حادثتين فقط:
في أوائل الثمانينات، كنت آتي برسوم العلي النادرة لأمي وأقرأ لها تعليقاته، فتضجّ بالضحك أو النقمة، وتقول ما تقوله دوماً: "الله يحيي البزّ اللي رضّعه". فإذا انشغلت عنها بعض الوقت، تسأل بعتب: "وين صاحبك؟ والله اشتقت أشوفه". فأتذكّر وآتي لها بالجريدة أو المجلة. حتى صار ناجي مع مرور الوقت فرداً من العائلة.
الحادثة الثانية، حين التقيت شاعراً إسبانياً في جزيرة مايوركا، فسألني عن كتب لناجي غير كتابيه الصادرين بالعربية، وظل طوال ساعة يتكلّم عن تأثيره فيه، هو الرسام الغارق حتى أُذنيه في هموم ومواجع المنطقة.
عرفت بعد ذلك، أن هذا الشاعر لا يعرف لغتنا، لم يزر بلادنا، وأنه في جيله واحد من أهمّ شعراء الحداثة وما بعدها.
ما هو السرّ؟
ثمة خطر كبير يواجه أي رسام كاريكاتير في مهنته: رسْم الاستهلاك. ولو أخذنا كل فناني الكاريكاتير العرب منذ منتصف القرن الماضي إلى اللحظة، لوجدنا معظمهم وقع في هذه الحفرة. بعضهم يقع فيها دائماً، وآخرون غالباً.
إلاً ناجي.
يقال تقريباً إنّه خطَّ حوالي أربعين ألف رسم. العدد ضخم ومرعب. هذه الغزارة لو اجترحها أيّ رسام في مُطلق الجغرافيا، في مطلق الوقت، فستفتح له هوّة الرسم الاستهلاكي، وسيقع لا محالة.
إلاّ ناجي.
هل بالغتُ؟
هل وقعتُ في مطب البلاغة؟
ربما نعم. وربما لسبب كهذا، كنت حريصاً على عدم الكتابة كلما هلّت ذكراه.
فأمثالي ممن ربّاهم هذا الجليليّ، وعلّمهم التمرد والجرأة منذ وقت مبكّر، لا يستطيعون ـ حتى لو أرادوا ـ أن يكونوا موضوعيين، كلما تعلّق الموضوع بالمعلّم.
بقيت كلمة: ناجي ملهمي، في الشعر، أولاً وتالياً.
هو الجارح، كم دلّني على الهدوء، وعلى عشّ اليمامة.
شكراً أبانا.
نعرف قيمتك في كل الأوقات، وبالذات وبالخصوص وبالأخصّ في هذا الوقت.
ألا ترى حناظلك في الميدان وتحت الأرض وفوق شعاع السماء.
لا شك أنك ترى .. لا شك أنك تفرح.
* شاعر من فلسطين