كثيرون لا يعرفون بهيجة حافظ، هي اسم مجهول حتى لعدد من الموسيقيين المتخصّصين، رغم دورها البارز في التأسيس للموسيقى التصويرية، ويعود الفضل لدراستها الموسيقى وعملها في مجال السينما بفرنسا إلى عائلتها الأرستقراطية، تصدّرت فيما بعد قائمة روّاد الموسيقى التصويرية في الدول العربية، حيث استعان بها المخرج محمد كريم سنة 1930، لوضع مقاطع موسيقية لفيلمه الصامت "زينب".
وبالفعل، وضعت بهيجة 12 مقطوعة موسيقية للفيلم، وأصبحت بذلك صاحبة أوّل موسيقى تصويرية توضع خصيصًا لعمل سينمائي في مصر، كما ألّفت لاحقًا موسيقى فيلم "الضحايا" الذي أنتج عام 1932، وهو الفيلم السابع عشر في تاريخ السينما المصرية.
الموسيقى التصويرية نعرفها جميعًا، بأنها الموسيقى المصاحبة للفيديو المعروض أيًا كان نوعه؛ توثيقي، درامي، مسلسلًا كان أو فيلمًا.
في الواقع هذا لا يشمل فقط أغاني التترات والخلفيات، ولكن يمتد ليشمل الثيمات الموسيقية للخوف والخطر والرومانسية والتي من المفترض أن تختلف من منتج بصري لآخر، ولكن جرى العرف منذ اختراع التلفاز وبداية صناعة الأفلام، على أننا نقتبس موسيقى الأفلام الأوروبية والقطع الكلاسيكية المشهورة لنستخدمها كموسيقى تصويرية للأفلام العربية، وتحديدًا في السينما المصرية.
موسيقى مكرّرة
على سبيل المثال، اقتبست موسيقى سيدني تورش بعنوان "بيل موون" في الفيلم العربي "دايمًا معاك"، والذي تقاسمت بطولته فاتن حمامة مع المطرب محمد فوزي، وحتى موسيقى فيلم "صغيرة على الحب" تعود أصلًا لفرقة "ذا ثري سنز" أو الشموس الثلاثة.
وتكرّر استخدام الموسيقى التصويرية للأفلام الأجنبية، مثل موسيقى "سريعًا قبل أن يذوب الثلج"، التي ألّفها ديفيد روز، وتم استخدامها في عدّة أفلام عربية قديمة منها "مطاردة غرامية"، أما موسيقى المؤلف فرانك سكينر لفيلم "مكتوب على الريح الأمريكي" فقد استخدمت في مشاهد الترقّب والحذر بكثرة في العديد من أفلامنا العربية.
لم يتم الإشارة في الأغلب إلى أصحاب الأعمال الحقيقيين، أو إلى عملية الاقتباس، وكان من المعتاد أن تتداول عدة أفلام المقاطع الموسيقية نفسها، وربّما مرّ هذا مرور الكرام على الجمهور الذي اهتم في البداية بالأغنية المسجّلة المغناة بواسطة أبطال من العمل كجزء من الفيلم، ولم يلتفت لقطع موسيقية أدرجت داخله.
قليلًا ما نفكر حول علاقة هذه الموسيقى بالصورة التي تصاحبها، وقليلًا ما تُطرح أسئلة حول كيفية صناعة هذه الموسيقى، وما إذا كانت علاقتها بالصورة والمحتوى هي ترجمة حرفية أم تضاد غرضه درامي، وعما إذا كانت الموسيقى تؤّلف قبل تصوير المشاهد أو العكس، أم تتمّ عملية صناعتهما بالتوازي.
نجاح مواز
في حقيقة الأمر، الموسيقى التصويرية للعمل المرئي هي عمل فني مكمل للصورة، بمعنى أنها تشارك الصورة الأهداف نفسها، وهذا يجعلها لا تقل أهمية عن النص المكتوب (السكريبت) للعمل على اختلاف تصنيفه.
نقطة الاختلاف بين المدارس بشأن الموسيقى التصويرية، هي أن البعض يرى أن الموسيقى لا بد أن تكون ترجمة حرفية موازية للصورة؛ بحيث تعبّر عن الموقف المرئي في تطابق تام، كأن تكون ذات طابع تراثي أو قطعة تراثية بالفعل، إذا كانت الصورة تعرض مشاهد عن زمن قديم.
في حين يستخدم البعض الآخر تقنيات التضاد أو التباعد في توصيل الأثر المطلوب بخلق أنواع جديدة من الثيمات الموسيقية التي لا تتطابق بالضرورة مع جو الصورة المعروضة، ولكنها تشترك معها في الهدف والأثر وتساعدها على تحقيقه، وهذا يفسر كيف أن العديد من الثيمات الموسيقية يمكن الاستماع لها بشكل منفصل كتركات صوتية بمعزل عن العمل الذي صنعت من أجله في الأساس، وربما حققت نجاحًا موازيًا له، لم يدركه العمل المرئي نفسه وتم التعامل معها على أساس أنها عمل فني منفصل مستقل.
وعن توقيت مرحلة صنع الموسيقى فى العمل، يبدو بديهيًا أن العمل المرئي يكون منتهيًا حين يأتي دور صانع الموسيقى التصويرية، سواءً كان منتجًا موسيقيًا أو موسيقيًا منفذًا، في مشاهدة ودراسة هذا العمل وتأليف ووضع الخطوط الموسيقية المكملة له.
ولكن الواقع غالبا ما يأتي مخالفًا لما يجب أن يكون، خصوصًا في العالم العربي؛ حيث يدأب المؤلّفون الموسيقيون على وضع موسيقى العمل بمجرد قراءة مختصرة للسيناريو، أو الحصول عليه سمعيًا في جلسة ودية، وهذه أيضًا حالة -غير احترافية و نادرة النجاح- يُنتج فيها عملان منفصلان أحدهما مرئيٌ والآخر مسموع.
بعيدًا عن الدراسات
مشكلة أخرى تواجهها هذه الصناعة في العالم العربي، وهي عدم دراية صانع الموسيقى التصويرية بأبسط القواعد الإخراجية أو الدرامية التي يتطلّبها تصوير المشاهد، حيث أن المهمّة تتخطى صنع عمل موسيقي إلى صنع مكمل درامي للصورة في شكل وسيط مسموع.
في مقابل ذلك، تعود أسباب المشكلة؛ إلى عدم دراية المخرجين بأصول اختيار الموسيقى التصويرية وعملها، فيختصر ذلك منطقة التلامس الدرامية بين العملين، في كلمات الأغاني المكتوبة إن وجدت، مثل تترات المسلسلات على سبيل المثال، أو الأغاني داخل الفيلم، ورغم ذلك تحقق الكلمة المسموعة غرضًا مهمًا هو ترسيخ مشاهد العمل في ذاكرة المشاهد. وغالبًا ما تتم كتابة هذه الأغاني تحت الطلب خصّيصا للعمل المرئي، فتكون حلقة الوصل الدرامية المباشرة بمحتوى العمل.
لعل من أبرز صنّاع الموسيقى التصويرية، الذين لفتوا نظر جمهور الدراما إلى وجود تلك الصناعة مؤخرًا هو هشام نزيه، ولقيت بدايته بموسيقى فيلم "إبراهيم الأبيض" موجة من الاهتمام الموازي بموسيقى الأعمال الدرامية بشكل منفصل عن العمل نفسه.
واستكمل نزيه مسيرته بموسيقاه المثيرة للجدل في مسلسلي "السبع وصايا" و"العهد"، و برغم اتّباعه أسلوب العمل على التوازي، والذي لا يضمن له رؤية العمل كاملًا، إلا أن موسيقاه أصبحت معلمًا للشهر الرمضاني ينتظرها المشاهدون كما ينتظرون العمل، ويلاحظ أن أعماله للمسلسلات التليفزيونية أثقل بمراحل في التكوين من أعماله للسينما. ومن بين أنشط صانعي الموسيقى التصويرية من الجيل نفسه، خالد حماد وتامر كروان، وانضم إليهما كل من محمد نزيه وأكرم الشريف في رمضان الماضي.
وتكاد تكون موسيقات الأعمال التصويرية أقل العناصر ظهورًا في الدراسات الأكاديمية والنقدية، حيث تندر المراجع والكتب العربية التي تتناول هذا الموضوع، ولا نكاد نجد سوى برنامج الراحل عمار الشريعي "غواص في بحر النغم"، كمستعرض لبعض الموسيقى التصويرية ومحلل لها، وهو في الدرجة الأولى من أبرز صنّاعها في العالم العربي ونالت النصيب الأكبر من أعماله. كما لا يمكن إغفال ذكر الفنان ميشيل المصري، وياسر عبد الرحمن، في موسيقى الدراما التلفزيونية في التسعينيات بمصر.
في النهاية، أصبحت الموسيقى التصويرية عملًا مكملًا لأيّ عمل مرئي في هذا العصر، حيث لم يعد من الإمكان الاعتماد على الصورة فقط كوسيط لإيصال الفكرة أو إحداث الأثر، وأصبح كافيًا غيابها عن العمل ليتوقف المشاهد عن المتابعة في اعتراف ضمني بأهميتّها وإن لم يكن اعترافًا دقيقًا.
(فنانة من مصر)