الأغلبية الشامتة
كان توفيق عكاشة مذيعا في التلفزيون المصري، يقدم برامج إخبارية عادية، لغة سليمة، وأداء ملتزم. قامت الثورة، وظهرت قناة الفراعين، وظهر عكاشة مقدّم برنامج توك شو، ولفت النظر بأدائه الكوميدي، الريفي، الكاريكاتوري، المتعمد، والمتفق عليه مع أجهزة الأمن، كما صرح هو بنفسه بعد رحيل محمد مرسي. لم يخطر ببال أحد "منا" أن يتجاوز تأثير عكاشة كونه مادة للسخرية والتندّر، ليس بأدائه الكوميدي فقط، بل أيضا بخطابه المبتذل، ومنطقه العشوائي. ما هي إلا شهور حتى أضحى توفيق عكاشة أحد أكثر الإعلاميين المؤثرين في مصر، وبات رأيه محل اهتمام واعتبار وتوجيه لدى قطاعات كبيرة من المصريين!
ترشّح الشيخ حازم أبو إسماعيل، الواعظ في إحدى الفضائيات السلفية، لمنصب رئيس الجمهورية. بدأ حملته الانتخابية من مسجد، وبدأ في تصدير خطابات شعبوية، تشبه ما يقدّمه توفيق عكاشة، ولكن بأسانيد شرعية. وكان وجوده، فضلا عن احتمالات نجاحه، محل تندّر كثيرين من شباب الثورة. أذكر أنني قلت يوما، في أحد الاجتماعات، إن أبو إسماعيل هو المرشح الوحيد المؤهل للنجاح من الجولة الأولى، وأنه سيسحق الإخوان المسلمين وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي. كنت مهتمًا منذ العام 2008 بالملف السلفي وتمدّده، واشتغال الأمن المصري به، وعليه. وتوقعت ما سيحدث، لكنني واجهت استهجانا، واستنكارا يمتزج بالسخرية من مجرّد التفكير في أي وزن أو قيمة لهذا الكائن الفضائي، على حد تعبير أحد الرفاق. كان ذلك في "بداية" حملة أبو إسماعيل، وما هي إلا شهور قليلة حتى كان أبو إسماعيل ظاهرة كونية، تصريحاتُه على صدور مواقع التواصل، بوستراته على بطون الكباري، ابتساماته الواثقة على الميكروباصات و"التكاتك"، وأصبح انتخابه واجبا شرعيا، ولولا جنسية والدته الأميركية لحكم مصر ألف سنة سعيدة!
يتكرّر الأمر مع ممثل مثل محمد رمضان، "نمبر وان" في الإيرادات. أصوات صارخة، مثل حمو بيكا، وحسن شاكوش، تحصد مئات الملايين من مرّات المشاهدة والاستماع على مواقع التواصل. دعاة على أبواب التريند مثل وجدي غنيم، وعبد الله رشدي. تنويرجية حكوميون مثل إسلام بحيري ودينا أنور، وعشرات غيرهما، يمثلون ملايين! يتجاوز التغييب الأشخاص إلى الموضوعات، البديهيات التي تخص بدورها ملايين آخرين، حين تطرح مشكلاتٍ مثل اضطهاد المسيحيين من الدولة والمجتمع، على السواء، العنصرية ضد السود، التنمر على مواقع التواصل، جرائم الختان والتحرّش وضرب النساء، فتجد إنكارًا لوجود المشكل، واستنكارا لطرحه، وغضبا لتصديقه، وتأكيدا على كونه وهما ومؤامرة!
وصل الأمر إلى أن كاتبًا ومثقفًا إسلاميًا مرموقًا يسألني باستنكار حقيقي: لماذا جاءت تعليقات أصدقاء سارة حجازي على موتها بهذه الحدّة؟ أين هم الإسلاميون الذين أهانوها أو دانوها أو شمتوا بها؟ لماذا يخترع أصدقاؤك أعداء من القش ويهاجمونها، البنت ماتت، ترحم بعضهم، وسكت آخرون، وانتهى الأمر عند هذا الحد؟! وبالمناسبة هو لا يكذب، لكنه باختصار لا يضيف إلى صفحته إلا من يشبهونه، ولذلك هو ليس معنا، هو في فضائه الخاص، ونحن مثله في فضاءات أخرى وسياقات أخرى.
أكثر من نصف سكان المدن في مصر يسكنون العشوائيات. أكثر من نصف المصريين يسكنون قرى محرومة من أبسط الخدمات والمرافق. أكثر من 85% من المصريين يعانون أشكالا مختلفة من الفقر، أكثر من ربع السكان أميون، وأكثر من ثلاثة أرباع المتعلمين يتلقون تعليمًا يكرّس لأمية أخرى. لا حاجة للإشارة إلى مستوى التوجيه الديني في أكثر من 130 ألف مسجد وزاوية، ما يعني أكثر من 130 ألف خطيب وواعظ. يكفيك أن تعرف أن أشهرهم هم خالد الجندي وسالم عبد الجليل ورمضان عبد المعز وعبد الله رشدي، وآخرون لا تعلمونهم، الأمن يعلمهم، ويشغلهم بمعرفته!.. هذه النسب المرعبة تعكس أذواقها أمزجةً وقناعات، تتأثر بالمحيط، يحتاج أصحابها إلى منتجاتٍ تخصهم، تخاطبهم، تشبههم، تبرّر شقاءهم، أو تجمّله. لهم فنانوهم، ونجومهم، ووعّاظهم، وعالمهم. لا يمكننا أن نلومهم، وليس من حقنا. حسبنا أن نعرفهم، إذا أردنا أن نفهم واقعنا، ومن ثم نغيّره، أو نسلّم به.