في مؤشر حرية الصحافة تتكلم الأرقام والحقائق، لا العواطف والشعارات، ولا هيجان القومية المتعصبة. فمن بين 180 دولة على المؤشر احتلت مصر، الدولة العربية الأكبر، قبل إقالتها من حجمها الحقيقي في السياسة والثقافة منذ أعوام، في المرتبة الـ 166 على المؤشر، فيما "سورية الأسد" حلت في الـ 174، قبل كوريا الشمالية بست درجات.
عند النظامين في دمشق والقاهرة (وغيرهما)، هي مؤشرات "لا معنى لها"، فأدوات الخطاب الأيديولوجي، من المكتوب إلى المرئي، ظلت تعرض لسنوات عضلات التجهيل على مواطنين مسحوقين، وشحن كراهية الكاميرا والقلم من خارج "الصراط المستقيم" عندهما. وليس غريباً أن يقسم بالله ثلاثاً، أركان المشهدين، عن أن "الحريات الموجودة" في البلدين "تفوق الدول المتقدمة".
وللملاحظة، النرويج وفنلندا والدنمارك والسويد، احتلت على التوالي المراتب الأربعة الأولى على المؤشر الذي خرجت به منظمة "مراسلون بلا حدود"، قبيل اليوم العالمي لحرية الصحافة.
المراقب لخريطة العالم المرفقة باللائحة يشعر بحزن يفوق أحزان كورونا. فاللون الأسود يمتد من ليبيا إلى السعودية فإيران والصين، مستثنياً بعض الدول العربية، كمؤشر ثابت على حال السلطة الرابعة.
في سورية، ومنذ حكمت سلالة الأسد لنصف قرن، متقدمةً عليها بـ20 سنة فقط سلالة كيم الكورية الشمالية، لم يعد ثمة صحافة، بمعناها المعروف مهنياً حول العالم. بل، منذ بداية حقبة البعث، ثمة منشورات بروباغندا تتشابه في نسخها الورقية: تشرين والثورة والبعث، وانضمت إليهم "الوطن"، مثلما يغيب الفرق بين شاشة وشاشة في مبنى ساحة الأمويين.
نظام آل الأسد الانقلابي منذ 1970 عرف أهمية تجهيل الناس وخداعهم، وجُيِّر لأجل المهمة بين سوريي حقبتي حكمهما: القومية العربية وفلسطين. وإليها ستنضم جوقة عربية، قريبة وبعيدة، تزايد على تقطيع جثة جمال خاشجقي، متجاهلة طريقة قتل سليم اللوزي اللبناني، بأوامر من "أمين القومية العربية القائد الخالد".
وهو الحال الذي سنجده لاحقاً عند أتباع إعلام سعودي بالقول إن "بن سلمان ليس أول من يقتل صحافياً"، وكأنها مبارزة على من يصطاد صحافيين أكثر.
تختلط العبودية الفردية بالدينية المجيرة لكل الغرائز، وبعضها وصل إلى درك غريب من انقلابه على يساريته وقوميته إلى التمذهب والتطييف في تناول الخبر، ولعق كل شعارات الماضي عن حرية الشعوب، لنصبح أمام أردأ وأهزأ أنواع الخطابة في الصحافة المكتوبة وعلى الشاشات.
ولا حاجة بالمطلق في 2020 للمقارنة بين سلطة رابعة تقوم على دستوية حق التعبير والوصول إلى المعلوم، وفقاً لنصوص وأعراف وقّعت عليها "دولنا" في ميثاق الأمم المتحدة، وتلك التي تأتي بآلات بروباغندا.
وما يثير الانتباه في هذا النوع من "الصحافة" تشابهه لدى أنظمة عربية مستبدة وأحزاب يمنية قومية متعصبة وفاشية في أوروبا وروسيا. فالهوس بنظرية المؤامرة والبحث عن أكباش فداء يجمعهما منذ نحو 10 سنوات. وراهن التطبيع على الشاشات اليوم ليس مؤشراً على "حرية تعبير" و"حرية فنون" إطلاقاً. فكمّ الهراء والأكاذيب الملقى على رؤوس المتلقين يحوله أصحابه إلى مسلّمات مقدسة، غير قابلة للمناقشة أو التفنيد، لخلق مزيد من عقول جلد الذات، على وقع واقع مؤلم في انقشاع دور "النخبة" في تعميق التجهيل والتخلف.
أمثلة فولوكلورية
ليست التغطية منذ 10 سنوات مضحكة حين دُلقت على عقول الناس في سورية ومصر. إن حول خروج الناس في 2011 لشكر الله على المطر، وعن بارجة الأطلسي الألمانية التي تساعد الثورة السورية، ولا عن اعتقال جيش السيسي لقائد أسطول أميركي.
وهي ليست كذلك في الراهن السوري بخروج يومي لوكالة "سانا" الأسدية: "الدفاعات الجوية أسقطت صواريخ طائرات إسرائيلية"، كاستعاضة غوبلزية عن اهتراء رواية "الممانعة".
معظم مفاهيم الحرية في عالمنا العربي تتحول إلى جنح وجرائم يغمَّس حبرها تارة بالدم، وفي أخرى بفتاوى دينية، تقبل أن يجلد الحاكم ظهر الإنسان بصمت، باعتباره رعية في مزرعة العبودية، وويل لمن يشهر كلمة "بوجه سلطان جائر"... فيد سليم اللوزي وجثّة جمال خاشقجي المقطّعة تذكير لـ"النفس الأمارة بالسوء".