الأزياء والأوبئة... تاريخ آخر للملابس والأقنعة

02 يوليو 2020
كانت التنانير المستديرة الواسعة والطويلة تباعد بين النساء في العصور الوسطى (Getty)
+ الخط -

منذ بدء الحضارة وتخلّي البشرية عن أوراق الشجر، ظهرت الملابس كجزء لا يتجزأ من الحضور الإنساني، بدءاً من أنسجة الكتان التي ارتداها الفراعنة والإغريق اتقاء للشمس، وصولاً إلى أصواف الحيوانات وفروها لتحمّل برد الجبال. واليوم، بعدما أجبرنا فيروس كورونا على ارتداء أقنعة الفم الواقية، ليخفي جزءاً مهماً من هويتنا، لنا أن نتساءل: كيف تعامل الإنسان مع ملابسه في أوقات انتشار الأوبئة والأمراض الفتّاكة على مر التاريخ؟

كثير من الكتب وضعت عن تاريخ الملابس المقاومة للأمراض والمسبّبة لها، وهناك العديد من المخطوطات القديمة التي حذرت من الآثار السيئة لارتداء الأحذية الضيقة والخصور المشدودة تحت ضغط مطاط الكورسيهات ومشدّات الصدور، وصولاً إلى خطورة ارتداء الأزياء العسكرية لشهور من دون غسلها، ما جعلها تصبح بؤراً للقمل والبراغيث. ومرت صناعة الثياب بطفرات عدة منذ بدء التاريخ، حتى وصلنا في لحظة ما إلى فساتين ذات ذيول طويلة كانت تسحب بها سيدات المجتمع أوساخ الشوارع إلى غرف نومهن، وهو ما يؤكده تقرير طبي بريطاني من عام 1900، فبعد فحص أطواق عدد من هذه التنانير.

أحصى الأطباء مستعمرات كبيرة من البكتيريا والفيروسات، بما في ذلك السل والتيفود والتيتانوس والأنفلونزا. وغالباً ما كانت هذه البؤر المميتة تتكاثر في بيوت الخياطات وعلى أسرّة أطفالهن النائمين، بنية إصلاح الثياب في الغد لعملائهن الأثرياء. منقار الطائر في تحقيق موسع عن تاريخ الأزياء في مواجهة الأوبئة، نشرت مجلة "كناك" البلجيكية دراسة جديدة تؤكد أن أول ظهور لأقنعة الفم الواقية، وصل إلينا عبر كتابات الطبيب الإيطالي فيليستيون فان لوكري، الذي بحث عن سبب مرض الطاعون في وقت مبكر من القرن الرابع قبل الميلاد، واعتبر فان لوكري أن انتقال الإنسان بين البرد القارس والحرارة الشديدة، يدمر الجهاز العصبي، وأوصى بارتداء الملابس التي تسمح للجسم بالاستفادة من الشمس وفي نفس الوقت تعمل على تهوية الجسم، وأشار إلى أن أنسب هذه الملابس هي المصنوعة من الصوف الفضفاض أو الكتان، والتي كانت موضة عصرية آنذاك. عندما قتل الطاعون الدبلي ثلث سكان أوروبا أواخر العصور الوسطى، أمرت الحكومات بحرق ملابس المصابين لمنع انتشار المرض، وتحفظ لنا مخطوطة من القرن الرابع عشر رسماً لستة رجال يجمعون ثياب مرضى الطاعون ويحرقونها، وتنصح مخطوطة أخرى بضرورة تنقية بيوت المرضى بالدخان وإحراق أغطية الأسرة، للتخلص من البراغيث والقمل التي تنقل العدوى، وهو ما شكل خسارة كبيرة لحفاري القبور آنذاك، والذين كانوا يبيعون ملابس الموتى سراً ليزيدوا من دخلهم المتدني. أما في القرن السابع عشر، فقد لعبت الملابس دوراً مهماً في منع انتشار الطاعون، وتسجل لنا بعض المخطوطات أردية الأطباء التي استخدموها لحمايتهم من المرض القاتل، حيث كانوا يرتدون قناع المنقار وعباءة طويلة مع قبعة وعصا بيد الطبيب يبعد بها أي مريض يقترب منه. ويُنسب اختراع قناع المنقار إلى الطبيب الفرنسي شارل دي لورم، الذي خدم في بلاط لويس الثالث عشر، وتشير الدراسة إلى أن دي لورم وصف في كتاباته معطفاً معالجاً بالشمع المعطر، وسراويل مربوطة بقوة في رقاب الأحذية، وقميصا مدسوسا في البنطال، وقبعة وقفازات مصنوعة من جلد الماعز. وقد حدد دي لورم طول القناع بست بوصات، على شكل منقار الطائر وهو مليء بالمستخلصات العشبية الطبية المنقية. الملابس الذكية في العصور الوسطى، انتشر مرض الجدري، حينها كانت التنانير المستديرة الواسعة والطويلة تباعد بين النساء رغماً عنهن، ما عمل على حمايتهن أكثر من الرجال، وإن ظلت هذه الموضة سبباً في أمراض أخرى حتى العصر الفيكتوري، حين خرج فيزيائي الملكة فيكتوريا جون سنو، أحد مؤسسي علم الأوبئة الحديث، باكتشاف جديد هو أن الكوليرا والطاعون الدبلي لا ينتقلان إلا عبر انتقال البكتيريا، وبدأ في تغيير نظم مياه الشرب ومجاري النفايات في لندن، ما أدى إلى القضاء على عديد من الأمراض والأوبئة آنذاك.

 أما في أوروبا، فقد انتشرت الكوليرا في القرن التاسع عشر، وتشير الدراسة إلى أن الأوروبيين تفننوا في التصدي للوباء بجميع النصائح المستمدة من الأساطير، والتي لا أساس علميا لها، كان ذلك بالطبع قبل أن يكتشف الأطباء أن بكتيريا الكوليرا تنتقل عن طريق المياه الملوثة، لكنهم في هذا الوقت انصاعوا لكل النصائح التي تتناقلها الأفواه، وهو ما سجله الصحافي النمساوي الساخر موريتز غوتليب سفير في رسم له عام 1830 تحت عنوان "صورة لامرأة مصابة بالكوليرا"؛ يظهر سيدة ترتدي ملابسها بشكل كاريكاتوري، وعدد سفير ما ترتديه السيدة بسخرية لاذعة قائلاً: "حزام من الفانيلا لتبريد المعدة، صدرية نحاسية، مشد مطاطي مرن أسفل الخصر، حزام من الحجارة الصغيرة، أكياس أعشاب على الساقين، أكمام جلد الغنم مبطنة بالقماش، قلادة من أحجار الملح وحبوب الفلفل". حتى كلب السيدة نراه هو الآخر مغطى بفروع التوت ويحمل في فمه لافتة مكتوب عليها: "ورغم ذلك لا خوف"! ومع هذا التقدم الطبي، لم تقف خطوط الموضة على الحياد، بل بدأت بيوت الأزياء الكبرى تفهم العلاقة بين الصحة العامة والملابس، فخرج طبيب الإصلاح وأخصائي الصحة غوستاف ياجر في ألمانيا عام 1880 في مقالة له بعنوان "الملابس كحماية صحية"، دعا فيها إلى ارتداء الملابس الداخلية الخشنة، ويفضل أن تكون صوفية طبيعية وغير مصبوغة "لتعزيز انبعاث مواد الجسم الضارة"، وهي الأفكار التي شجعت الإنكليزي لويس تومالين أن يطلق علامة "Jaeger" للملابس الذكية عام 1884، والتي لا تزال موجودة حتى اليوم.

المساهمون