الأزمة النمساوية تتفاقم: اليمين الأوروبي المتطرف يراقب بقلق

23 مايو 2019
تُسقط الأزمة أي إمكانية لتحالف بين كورتس وشتراخه (Getty)
+ الخط -
كان يمكن لفضيحة الفساد التي ضربت أحد أهم أقطاب اليمين المتطرف في النمسا، نائب المستشار هاينز كريستيان شتراخه، أن تمر كما فضيحة احتفاء أحد القيادات الطالبية لحزب "الحرية" بالنازية وبالمحرقة (الهولوكوست) في أواخر يناير/ كانون الثاني 2018، مردداً قصيدة تدعو إلى "الضغط على دواسة البنزين للوصول إلى المليون السابع"، في إشارة إلى ضحايا المحرقة النازية. فقد استقال حينها صاحب الفضيحة، أودو لاندبيرغ، مرشح "الحرية" في مقاطعة "النمسا السفلى"، وطويت أزمة الائتلاف الحكومي.

لكن يبدو أن الأزمة هذه المرة تدحرجت إلى مستويات أعمق وأخطر، وهي التي بدأت إثر تسريب شريط مصوّر يظهر فيه الرئيس السابق لحزب "الحرية" هاينز كريستيان شتراخه وهو يقول إنه مستعد لتلقي تمويل روسي مقابل تأمين عقود حكومية مع النمسا. وتضرب الأزمة حزباً (الحرية) يُتهم بالأصل بأن له جذوراً نازية منذ تأسيسه عام 1956. ويُنظر إلى ما يجري اليوم كانعكاس لصراع بقاء يخوضه أقصى اليمين القومي في فيينا، والمدى الذي يستعد أن يذهب إليه الشعبويون في علاقاتهم الداخلية والخارجية للتمسك بالسلطة، أو الوصول إليها.

وينشغل ساسة النمسا بعمق بما تسرب في التسجيل ونتائجه المتوقعة على حكم بلادهم. فلم تقتنع الصحافة ولا الرأي العام بتبريرات شتراخه لما جرى باعتباره "ثرثرة ذكورية لإثارة إعجاب سيدة جميلة"، وهو ما كان قد أشار إليه بحديثه مع مساعده، يوهان غودينيوس، في الشريط المسرب. وانفجرت "فضيحة إيبيزا"، كما اصطُلح على تسميتها، بعد نشر وسائل إعلام فيديو صُوّر قبل نحو سنتين، يُظهر شتراخه وهو يناقش في فيلا في جزيرة إيبيزا وقبل أشهر من انتخابات 2017 التشريعية، مع امرأة يُعتقد أنها مرتبطة بشخصية روسية، احتمال تقديم مساعدات مالية مقابل منحها مدخلاً لعقود حكومية مع النمسا.

وعلى الرغم من أن الفضيحة طاولت مباشرة اليمين المتطرف، إلا أن الانعكاسات، بحسب ما يراها مراقبون، تثير أسئلة مقلقة عن انتشار الفساد في المستويات السياسية، بالإضافة إلى الضرر بالبلاد وسمعتها. فمجرد مناقشة طرف أجنبي، وبالأخص روسي، حول عطاءات واستثمارات مقابل "دعم مالي" للحزب، بعيداً عن مصلحة الضرائب، يُنظر إليه بكثير من القلق والريبة، خصوصاً مع ما يثار منذ أعوام عن علاقات الكرملين بالسياسيين المتطرفين في الغرب.

تعمّق المأزق وغياب الثقة، دفع المستشار النمساوي سيباستيان كورتس، مساء الإثنين، إلى القول إن وزير الداخلية هربرت كيكل، الذي شغل منصب أمين عام حزب "الحرية"، أثناء الحملة الانتخابية وفترة تصوير الشريط الفضيحة في 2017، "لم يدرك خطورة الوضع"، فأقاله بعد رفض كيكل الاستقالة بنفسه، وبتهمة خطيرة هي "محاولة إعاقة التحقيق حول ما جرى"، وهي إشارة اعتبرها "الحرية" موجّهة ضده. فجاء رد الحزب باستقالة وزرائه من الحكومة، والاستعاضة عنهم، باتفاق كورتس مع الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلين، بخبراء.

ورأى كورتس أن بقاء كيكل في منصبه وزيراً للداخلية، سيعني "عدم وصول النمسا إلى كل الحقائق حول ما جرى في 2017". لكن كورتس لا ينظر فقط إلى مؤشرات تحقيق حزبه المحافظ، "الشعب"، لانتصارات على حساب حليف الأمس، "الحرية"، في انتخابات البرلمان الأوروبي، يوم الأحد المقبل، بل إلى ما هو أبعد، وخصوصاً الانتخابات المبكرة في سبتمبر/ أيلول المقبل. فكورتس، السياسي الثلاثيني، بات يقدّم نفسه كسياسي وطني محافظ، حريص على مصالح وصورة بلده.


لكن مهمة كورتس لن تكون سهلة، ببروز "روح التضامن" لدى قادة "الحرية" مع زعيمهم المضطر لترك منصبه، وإصرارهم على اختيار نوربرت هوفر بديلاً له، وهو المتهم أيضاً بماضٍ نازي، وكان قد نافس على رئاسة البلاد في ديسمبر/ كانون الأول 2016، قبل أن يهزمه البروفسور البيئي، الأقرب إلى اليسار، فان دير بيلين.
وتهديد حزب "الحرية" بـ"الانتقام" عبر سحب الثقة من حكومة كورتس في البرلمان الحالي، قد يؤدي أيضاً إلى خسارة فادحة لحزب كورتس، وخصوصاً إذا ما صوّت الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" لمصلحة حجب الثقة، ما يعني أن كورتس سينتهي كمستشار، فليس لدى حزبه في البرلمان سوى 61 نائباً من أصل 183.

ولا شك أن ما يجري في النمسا سيشغل النخب اليمينية المتشددة المتخوّفة من تأثيرات سلبية على معسكرها في عموم القارة الأوروبية، وبالأخص أن هؤلاء ولأول مرة يذهبون إلى انتخابات البرلمان الأوروبي، التي تنطلق اليوم، متفقين على التحوّل إلى كتلة وازنة، ليصبحوا الكتلة الثالثة، بنحو 73 إلى 100 برلماني منتخب، بحسب التقديرات. والقلق الذي يعتري الآن هذا المعسكر المتطرف أن النمسا ذاهبة للتحري والتحقيق للكشف عن كل تفاصيل ومدى علاقة روسيا به، وماذا قدّم لها في المقابل؟

وتحوّلت القضية إلى رأي عام أوروبي أبعد من وضع شتراخه في النمسا، ففي إيطاليا يراقب زعيم حزب "رابطة الشمال" المتشدد، ماتيو سالفيني، ومعه في فرنسا زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان، وقيادات أحزاب ذلك المعسكر في أكثر من مكان، ما يمكن أن تجره الأسئلة على صفحات وسائل الإعلام الأوروبية، التي بدأت عملياً تبحث عن عمق تلك العلاقات، إلى جانب علاقات هذا المعسكر مع المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ستيف بانون، والتي باتت تقلق المستويات السياسية المختلفة في يمين الوسط الأوروبي الغربي. وهذا القلق لمّح إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الثلاثاء، في معرض تعليقه على تقدّم اليمينيين المتطرفين ودور بانون في ذلك، خشية من تأثير ذلك على الانتخابات وعمق العلاقة بأحزاب وحركات تقاوم مشروع الاتحاد الأوروبي.

مقابل تلك المخاوف من الدور الروسي وعلاقته باليمين المتطرف، نفى عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الروسي، أوليغ موروزوف، بحسب وكالة "ريا نوفوستي"، وجود أي "صلات لروسيا بهذه القضية المزعجة، فالعلاقة الجيدة بالنمسا هي الأهم لروسيا، ولا يمكنها المخاطرة بحيل فيلم إثارة (وهو يشير إلى الشريط المسرب)".
وعلى الرغم من أن الاستخبارات النمساوية لم تقل شيئاً بعد عن الفيديو ومحتواه، إلا أن نفي موروزوف لا يلغي الشكوك المتزايدة والخارجة إلى العلن عن صلات روسية بأقطاب معسكر اليمين الشعبوي المتطرف في الاتحاد الأوروبي.

وفي كل الأحوال، يتوقع المراقبون للوضع النمساوي أن تعود أزمة اليمين المتشدد، والمحافظين في يمين الوسط، بالفائدة على يسار الوسط، "الاجتماعي الديمقراطي" ومعسكر الوسط عموماً. ولا يستبعد هؤلاء أن تنعكس هذه الأزمة العميقة على المعسكر المتطرف، وخصوصاً في حزب "الحرية" على شكل انشقاقات داخلية وتشظٍّ إلى كتل متنازعة قبيل انتخابات سبتمبر المقبل.

المساهمون