خيارات الحريري
يتفاوت التقدير بشأن المقدار الذي نجا به سعد الحريري، من "المجزرة السياسية" التي ارتكبتها السلطات السعودية بحقه. يقول البعض إن الجنسية الفرنسية وحدها التي حمته من مصير شخصي سيئ، وقد تكون حمته أيضاً من التصفية السياسية التي ترجمها التعامل السعودي المهين معه. وسيكون على المتابعين انتظار تكشّف الاتفاق السعودي-الفرنسي لتبيان الموقف.
إلا أن خيارات الحريري من فرنسا، تتلخص بعودته إلى لبنان وتقديم الاستقالة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون مباشرة، وقبول التكليف بتشكيل حكومة، أو تقديم الاستقالة والاعتذار عن قبول تكليف جديد، وترك الفراغ ليأكل صلاحيات رئاسة الحكومة (المحسوبة على الطائفة السنّية وفق النظام الطائفي اللبناني) كما سبق وأكل صلاحيات رئاسة الجمهورية، طوال فترة الشغور الرئاسي التي فرضها "حزب الله" حتى انتخاب حليفه ميشال عون، رئيساً. أما الخيار الثالث فهو عودة الحريري حراً بشكل كامل إلى لبنان، وعودته عن الاستقالة ومعالجة تداعياتها على الصعيد السياسي وفي بيته السياسي والعائلي الداخلي، وهو الأصعب بسبب تفشي الخلافات الحادة التي تجمع الطابعين الشخصي والسياسي في بيئة الحريري السياسية وفي بيئات أخرى قريبة منها.
وبعد أسابيع من تناقل رواية "مصادرة الهاتف الشخصي للحريري فور وصوله إلى المملكة"، باتت الروايات المتداولة والتي تتقاطع تفاصيلها بين مختلف البيئات السياسية في لبنان، تطاول ما هو أبعد بكثير من مجرد مصادرة الهاتف أو قطع التواصل العام أو تحديد مكان الإقامة. "فتشوا عن لهفة عمة الحريري، النائب في كتلة المستقبل، بهيّة الحريري، لتتصور ما حدث مع ابن أخيها"، يقول أحد المتابعين. واكبت الصدمات الحادة حياة النائب عن صيدا، منذ اغتيال شقيقها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري عام 2005. رافق بعدها ابنها نادر، ابن خاله سعد، في مسيرته السياسية منذ ذلك الحين. فكانت صدمتها مزدوجة عند إعلان "احتجاز الحريري في الرياض"، لأن مصير ابنها السياسي مرتبط بمصير سعد نفسه. رفضت بهية الحريري وعدد آخر من أفراد العائلة زيارة السعودية لـ"مبايعة شقيق سعد، بهاء، كخليفة للحريرية السياسية في البلاد". يُضاف بهاء، إذاً إلى قائمة الخاسرين بعد الانقلاب، وهو الذي أوفد وكيل أعماله ليجول على القوى السياسية ويستطلع الآراء بشأن إمكانية التعاون السياسي مع الشقيق الأكبر لسعد، قبل أن يعود الوكيل خالي الوفاض.
هز هذا الموقف أركان "كتلة المستقبل" النيابية التي انقسم أعضاؤها بين الولاء لسعد الحريري وبين احتواء التصعيد السعودي الكبير. وامتدت حالة الارتباك إلى دار الفتوى في لبنان. وقف المفتي عبد اللطيف دريان خلف الإجماع السياسي حول دور الرئيس ميشال عون، قبل أن يُعلن عن تفهّم أسباب الاستقالة، بعد التصعيد السعودي الإضافي في ضوء وحدة الموقف اللبناني. طاول التصعيد هذا معظم حلفاء المملكة في لبنان، ومن نجا من الاتهام بـ"خيانة المملكة" كشفت وسائل إعلامية مقرّبة من "حزب الله" عن أنهم ساهموا وروجوا ودفعوا المملكة باتجاه "إعدام الحريري سياسياً لأنه فشل في محاربة نفوذ حزب الله".
تدحرج الخلاف المستجد سريعاً بين "المستقبل" و"القوات اللبنانية"، لينعكس حالياً على صعيد انتخابات نقابات المهن الحرة، مع خسارة "تيار المستقبل" لنقابة أطباء الأسنان في الشمال بسبب اهتزاز التحالف مع "القوات اللبنانية"، التي يُتّهم رئيسها سمير جعجع، بـ"الخيانة" في صفوف المستقبليين، وأنه هو من حرض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضد سعد الحريري. ومن المتوقع أن تستمر ترجمة الخلاف في انتخابات نقابتي المحامين في طرابلس وبيروت للأسباب نفسها.
"فارس سعيد ونظرية بريجيت باردو"
على الصعيد المسيحي، حاز النائب السابق فارس سعيد، على لقب "المُراهن السياسي الأسوأ" في لبنان والمنطقة. سارع الرجل لنعي النظام التركي بعيد الانقلاب الفاشل منتصف يوليو/تموز 2016، فأثبتت التطورات فشل رهانه. ثم نُقل عنه قوله "إذا انتُخب ميشال عون رئيساً فأنا أكون بريجيت باردو"، فانتُخب عون. وفشل رهانه أيضاً على تبنّي السعودية لـ"المبادرة الوطنية" التي أطلقها مع الأكاديمي رضوان السيد، كجبهة معارضة لـ"حزب الله" وللتسوية السياسية التي خاضها عون، والتي كانت ستمنحه منبراً سياسياً بعد أن ضعفت الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار وغاب الزوار عن مقرها في الأشرفية.
وبالكاد أقنع سعيد الجمهور اللبناني بأنه هو عرّاب زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى المملكة. وهو ما نفته وقائع الزيارة التي بدا فيها سعيد كمن يحاول فرض نفسه خلال زيارة اجتماعية. وبعد أن تندّر سعيد على وسائل الإعلام التي تناقلت خبر زيارته إلى المملكة مشيراً إلى أنه "يلعب ورق الشدّة في بلدته قرطبا" (قرية جبلية شمال شرقي لبنان)، لم تأخذ وسائل الإعلام "تحميل فارس سعيد لحزب الله مسؤولية أي أذى قد يتعرض له" على محمل الجد.
ولم يستطع مستشار الحريري، وزير الثقافة الحالي غطاس خوري، أن يتعاطى بشكل شخصي مع خطوات "أصدقاء الأمس"، ولجأ إلى التاريخ المسيحي مستحضراً "يوضاس (يهوذا الإسخريوطي) الذي باع المسيح بثلاثين قطعة من الفضة" في تغريدة فُهم أنها تستهدف رئيس "القوات" سمير جعجع. بعد أن كان خوري موفداً دائماً من قبل الحريري إلى جعجع، فاجأته مشاركة جعجع في التحريض المفترض على الحريري عند ولي العهد السعودي. وهو ما ترجمه تصريح وزير الخارجية جبران باسيل من موسكو الذي اتهم "أطرافاً داخلية في المشاركة بما حدث مع الرئيس الحريري". وإذا كانت مواقف باسيل التي طرحها في جولته الأوروبية مدروسة بشكل جيد، فإن تمثيله للبنان في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الأحد، لا يزال مصدر قلق للعديد من القوى المحلية التي تخشى من "سقطة ما" لرأس الخارجية اللبنانية.
أما داخل البيت المستقبلي، وبعد أسبوعين من استقالة الحريري، فقد برز إلى العلن ما كان معروفاً في الغرف المغلقة: تيار المستقبل منقسم بين فريق نادر الحريري الذي يضم النائب عقاب صقر والمستشارين غطاس خوري وهاني حمود وبدرجة أبعد الإعلامي نديم قطيش، وهو الفريق المكروه سعودياً حالياً، وبين الحرس القديم الذي يمثّله رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بشكل أساسي، وهو المعروف بعدم رضاه على صفقة الحريري في انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وترجم السنيورة ذلك شخصياً بمخالفة قرار الحريري وتفرده بعدم انتخاب عون في جلسة 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016.
وبين هذين التيارين، فشل المتابعون في تصنيف وزير الداخلية نهاد المشنوق، رغم رفضه للخطوات السعودية ووقوفه إلى جانب عون وسعد الحريري. ويعود ذلك إلى اعتبار المشنوق نفسه كمرشح "طبيعي" لموقع رئاسة الحكومة. وفهم البعض زيارته لرئيس الجمهورية أمس في إطار تقديم اعتماد سياسي لعون، قد يساعده في حيازة تكليف رسمي بتشكيل حكومة مقبلة. ويبقى أن كل الحلول الداخلية مجمدة بانتظار عودة الحريري، "لتبدأ الأزمة السياسية الداخلية بعد انتهاء أزمة الحريري"، كما نقل زوار رئيس مجلس النواب نبيه بري عنه.