بعد مضي ما يقرب من ثلاثة أشهر على اندلاع الاحتجاجات الساخطة في السودان، بسبب الغلاء وشح النقود والخبز والوقود والأدوية وتفاقم أزمة المواصلات العامة، لا تزال الأزمات قائمة، رغم اتخاذ الحكومة العديد من القرارات التي دخلت خانة الطوارئ، وإجراء تغييرات طاولت محافظ البنك المركزي.
ويصف مراقبون الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بـ"المسكنات" فقط، محذرين من انفلات أكبر للأزمات حال عدم إيجاد حلول جذرية، ولا سيما ما يتعلق بأسعار السلع وتوفير الخبز والخدمات، بينما يشير مسؤولون إلى أن الحلول الجاري العمل على تطبيقها تتطلب المزيد من الوقت لتحقيق الاستقرار المعيشي.
ووفق بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي)، في فبراير/شباط الماضي، انخفض معدل التضخم خلال يناير/كانون الثاني، إلى 43.45 في المائة، مقارنة مع 72.94 في المائة في ديسمبر/كانون الأول 2018، إلا أن خبراء اقتصاد يشككون في شفافية هذه البيانات، في ظل الارتفاع المتواصل في أسعار السلع والخدمات.
وتشهد الدولة منذ نحو عام أزمة سيولة متواصلة، وانفلاتاً في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه السوداني في السوق الموازية، وشحاً في الكثير من السلع، ومنذ اندلاع الاحتجاجات الساخطة في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول لم يتغير واقع الأزمات كثيراً رغم اتخاذ الحكومة قرارات عدة آخرها تطبيق قانون الطوارئ في البلاد وحل الحكومة المركزية وتعيين حكام جدد للولايات المختلفة موالين للجيش نهاية فبراير/شباط الماضي.
ويقول الخبير الاقتصادي، الفاتح عثمان لـ"العربي الجديد" إن الأزمات الاقتصادية ما تزال حاضرة في المشهد السوداني، فرغم انحسار صفوف الخبز الطويلة، إلا أن الآلية المتبعة لدعم الدقيق تسمح بعودة الظواهر السلبية بصورة أكبر بسبب استمرار عمل ما وصفها بـ"مافيا الدقيق في الدولة".
ويضيف عثمان أن أزمة السيولة النقدية ما تزال قائمة أيضا، والصفوف تمتد أمام الصراف الآلي، رغم ما أعلنت عنه الحكومة لحل مشكلة السيولة بطبع فئات نقدية كبيرة.
وكان الرئيس عمر البشير قد أصدر، نهاية الأسبوع الماضي، قراراً بإقالة محافظ بنك السودان المركزي، محمد خير الزبير، بعد 5 أشهر فقط من توليه المنصب، ليعين بدلاً منه نائبه الأول حسين يحيى جنقول، ليصبح رابع محافظ يتولى رئاسة البنك المركزي خلال نحو ثلاثة أعوام.
وأعلن البنك المركزي مطلع مارس/ آذار الجاري، عن وصول الأوراق الخاصة بطباعة فئة 500 جنيه، تمهيداً لطرحها في الأسبوع الثالث من هذا الشهر، مشيرا إلى فراغه من طرح فئات الـ 100 و 200 جنيه.
وقفز سعر صرف الدولار في السوق الموازية خلال الأيام الأخيرة إلى نحو 70 جنيها، مقابل 47.5 جنيها وفق الآلية المصرفية الرسمية، بينما تواجه الحكومة عجزاً كبيراً في موارد النقد الأجنبي لتمويل واردات الوقود والسلع الأساسية.
ويقول الخبير الاقتصادي السوداني، إن أزمة الوقود قائمة وستظل كذلك طالما هناك عجزا في الحصول على نقد أجنبي وزيادة حجم الاستهلاك غير الرشيد وانتشار التهريب.
ويضيف: "أطلت أزمة الغازولين من جديد بشكل كبير، ويمكنها خنق موسم الزراعة في مايو/أيار ويونيو/حزيران المقبلين، إضافة إلى شكاوى القطاعات التعدينية التي تعول عليها الحكومة. ويتابع أن "أزمة شح الأدوية وارتفاع الأسعار ما تزال مستمرة، ما ينذر بكارثة في مقبل الأيام".
وتتجدّد أزمة الوقود على فترات متكررة، وتتسبب في امتداد طوابير السيارات أمام محطات التزود بالوقود بالمدن الرئيسية، كما تغلق بعض المحطات لعدم ورود إمدادات إليها.
ويقول عثمان إن "الصمت العالمي تجاه السودان وعدم تدخله لإنقاذ اقتصاده، سببه عدم وجود رؤية حكومية واضحة للخروج من الأزمة، ولذلك شعرت كل الدول أن ما ستقدمه من أموال يذهب للاستهلاك، وأصبح موقف الحكومة سيئا جداً، فقد توقفت عن سداد مديونياتها لشركات النفط التي انسحبت من العمل، إضافة إلى انسحاب شركات الطيران العالمية بسبب أزمة سداد مستحقاتها بالدولار". ويتجاوز الدين الخارجي على السودان 50 مليار دولار، وتواجه البلاد صعوبة في جذب تمويل خارجي جديد.
وشملت أوامر الطوارئ التي أصدرها البشير، تنظيم التعامل بالنقد الأجنبي وتحديد ضوابط خروجه، وكذلك خروج الذهب عبر الموانئ والمعابر، وحظر توزيع وتخزين وبيع ونقل المحروقات والسلع المدعومة خارج القنوات الرسمية.
ووفق وكيل وزارة وزارة النفط والغاز والمعادن، عبد الجابر عثمان مرعي، فإن الوزارة تعمل على انساب الوقود، خاصة إلى قطاع التعدين، وذلك بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السودانية "سونا" يوم الإثنين الماضي.
لكن الخبير الاقتصادي محمد الناير يقول لـ"العربي الجديد" إنه منذ اندلاع الاحتجاجات لم تقدم الحكومة حلولا جذرية، بينما الحلول الخارجية صعبة، لأنها ترتبط بمواقف سياسية، كما أن الدول أصبحت تعمل بمبدأ التكتلات، فمن الصعب أن تعتمد على العامل الخارجي لإصلاح الشأن الاقتصادي الداخلي.
ويشير الناير إلى ضرورة اتباع سياسات إصلاحية، اعتمادا على مدخرات المغتربين ومنحهم الحوافز التي ترضيهم قبل إرضاء الحكومة لتحويل الأموال إلى القنوات الرسمية، وإنشاء بورصة للذهب، ومعالجة قضايا المصدرين وتفعيل الدفع الإلكتروني.
ويقول مصدر في أحد المصارف التجارية لـ"العربي الجديد" إنه "رغم إعلان الحكومة طرح فئات نقدية من 100 و200 جنيه، إلا أنه لم تدخل حتى الآن أي فئة جديدة البنك، وما زالت الصفوف ممتدة أمام ماكينات الصراف الآلي التي يغذيها بنك السودان المركزي.
ويضيف: "الأزمة في استفحال يوما تلو الآخر، وحتى لو تم تداول فئة الـ 500 جنيه فلن تُحل الأزمة، لأن المواطنين فقدوا الثقة في الجهاز المصرفي، ولم يعودوا يودعون أموالهم منذ أكثر من عام، بل يزداد السحب من الصراف الآلي، فهناك
كثر يمتلكون أكثر من بطاقة صراف آلي لا نعرف ماذا يفعلون بها وهذا تشوه جديد في العمل المصرفي".
ويقول مواطنون إن الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي لم تنه الأزمات، فالأسعار ما تزال مرتفعة في الأسواق وكل تاجر يبيع بسعر، وأضحت ظاهرة البيع بالكاش (نقدي) والشيك منتشرة ما يجعل تباين الأسعار كبيرا في الأسواق.
لكن وزير المالية السابق ورئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان علي محمود، اعتبر في تصريحات صحافية، أمس، أن التذبذب في الأسعار سببه أن الدولار أصبح سلعة وتجارة ترتفع وتنخفض مع تزايد الطلب وشح العرض، مضيفا: "هناك أناس يشترون ويبيعون ويربحون في الدولار، ومشكلته أنه أصبح تجارة".