الأردن.. الحال البرلماني واللاسياسية

02 يناير 2015

من جلسات البرلمان الأردني (20 فبراير/2014/الأناضول)

+ الخط -

بغير قليل من المبالغة، قد يكون الأردن البلد الوحيد في العالم الذي يجرؤ بعض فاعليه السياسيين على اقتراح "كوتا حزبية" لضمان حدٍّ أدنى من تمثيل الأحزاب السياسية داخل مجلس النواب. والأصل في الديمقراطية أن الانتخابات لحظة سياسيةٌ بامتياز، لحظة اختيارٍ بين مشاريع سياسية ورؤى مجتمعية ومرجعيات قيمية وتصوراتٍ برنامجية، لحظة فرزٍ بين قوى سياسية حاملة تلك المشاريع والرؤى والمرجعيات والتصورات.
في المحصلة، الديمقراطية، ديمقراطية الأحزاب، تنهض على عاتق برلمانات تمثل سلطة الاقتراع العام من خلال الأحزاب وممثليها، وهو ما يجعل البرلمانات، في صيغتها الديمقراطية مجالس للأحزاب. لذلك، الدفاع عن تسييس الانتخابات البرلمانية معناه بالضرورة دفاعٌ عن الديمقراطية، وعن المؤسسات، وعن "المعنى" السياسي الذي تنتجه الآليات الحديثة للتمثيل النيابي.
الإشكالية الديمقراطية في الأردن تتأرجح بين عنوانين مُتجاورين: معضلتا تحول المسار الدستوري نحو المنطق النيابي، وتحول العمل البرلماني نحو المنطق السياسي والحزبي.

وتتجلى المعضلة الدستورية في نهوض الهندسة المؤسساتية الأردنية على تهميش قاعدة اللامسؤولية السياسية، فالسلطات التنفيذية الأساسية بيد الملك، وما تتوفر عليه الحكومة من هامشٍ للصلاحيات لا يوازيه أبداً مقدار مسؤوليتها أمام البرلمان، إذ تظل الحكومة وليدةً للإرادة المنفردة للملك في التشكيل والمسؤولية والإقالة، فهي لا تنبثق من الأغلبية النيابية، ولا تؤلف بناءً على نتائج الاقتراع البرلماني. كما أن الحياة الدستورية، والتي استؤنفت بعد مرحلة الأحكام العرفية عام 1992، لا تزال مطبوعة بالهشاشة، إذ تتسم بعدم الاستقرار وكثرة البياضات، واللجوء المتكرر إلى حل البرلمان، وإطالة "الزمن الانتقالي". وهذا ما يجعل النظام الدستوري بعيداً عن المنطق النيابي، وعن روح الأنظمة البرلمانية، إذ لا يتجاوز حضور البعد النيابي، في الحقيقة، من باب المفارقة، التوصيف الذي يقدمه الدستور الأردني لطبيعة النظام السياسي، نظاماً نيابياً ملكياً.
ومثل كُل الأنظمة الشبيهة، فإن الملاءمة بين الطبيعة الملكية والوراثية للنظام وبين الأفق الديمقراطي، لا تملك سوى مسارٍ واحدٍ، يتجلى في تعزيز التوجه البرلماني، وإذا كانت "الملكية الدستورية" قد تبدو شعاراً سياسياً أكثر مما هو مطلبٌ مرحلي، فإن سيناريو ملكية برلمانية ثنائية، تحتفظ فيها الملكية ببعض الصلاحيات السيادية، أو حتى الاستراتيجية، إلى جانب حكومة نيابية بصلاحيات واسعة، يبدو صيغة ملائمة لتدشين ممكنات التحول الديمقراطي، على قاعدة ما تسميها أدبيات الانتقال بخيار "الصفقة السياسية".
أما المعضلة الانتخابية فتتجلى في مقاومة النظام الانتخابي أي إمكانية لتسييس الظاهرة الانتخابية، ولفرز أغلبية سياسية واضحة وكتل برلمانية بارزة، إذ تجعل قاعدة "الصوت الواحد" نواب الخدمات يهيمنون على مجلس الأمة، من دون أن يستطيعوا التعبير عن رؤية ومشروع سياسي وطني، خارج تعزيز الانتماءات الجهوية والعشائرية والهويات المحلية المعزولة.
وهذا ما يجعل من الانتخابات البرلمانية الأردنية ظاهرة سوسيولوجية ومحلية، أكثر منها حالة سياسية وطنية.
إن إصلاحاً سياسياً مِقداماً يمر عبر تعديلات جريئة على القانون الانتخابي، وتدعيم المنظومة الحزبية، ليس من شأنه أن يقضي، نهائياً، على منظومة حُكمٍ متكاملة، مبنية على شبكة صلبةٍ من الولاءات الزبونية والريعية التي تربط شيوخ العشائر بالسلطة السياسية. لكن، في المقابل، فإنها قادرة بشكل إرادوي على تخفيف أثر المعطى العشائري على السلوك الانتخابي، وعلى ربط الأخير بأفق المواطنة المتحررة من الانتماءات التقليدية.
تنطلق بداية التحول الديمقراطي في الأردن من التوفر على دستور يُقر بالسيادة الشعبية، ويُقوي صلاحيات الحكومة، ويربط بين تأليف الحكومات ونتائج الانتخابات، ويعزز مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة تجاه البرلمان، ويُغير مضمون الثنائية المجلسية بإعادة تعريف بنية الغرفة الثانية ووظيفتها من حيث طريقة التكوين وطبيعة الاختصاصات، على نحو يقطع مع تقليد المجلس المُعين.
وتنطلق بداية التحول الديمقراطي في الأردن، كذلك، من تجاوز الحجج التي يسوقُها دعاة الحفاظ على الوضع القائم، مرّةً باسم تعقد الجغرافيا، أو توتر الديمغرافيا، ومرّة باسم الثنائية الدراماتيكية للمشهد السياسي بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين. وتنطلق بداية التحول الديمقراطي في الأردن، في نهاية التحليل، من تجاوز حالة اللاسياسية في الانتخابات البرلمانية، ومن تجاوز حالة اللامسؤولية في تدبير الشأن العام.

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي