الأدوار الاجتماعية تحت الضوء

11 فبراير 2017
+ الخط -
منذُ عدّة أيام، كتبتُ على حسابي الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، مُناوشة عن تبادليَّة الأدوار التربوية بين الرجال والنساء، وتقاطُعها مع الأدوار الاجتماعيّة لكل منهما. هذه المناوشة اعتمدت في المقام الأول على استخدام فعل "رمى"، وجاء نصّها كما يلي: "طول ما الستّات حريصة عالعيال، الرجّالة هتفضّل تتفرعِن عليهم. ارمولهم العيال يا جماعة"، في محاولة لمزج التهكُّم بتبادلية الأدوار، وفتح مساحة حرّة للنقاش، دون الوقوع في فخ المنشور المعلوماتي لجذب تفاعل القرّاء. 

العلاقة الثنائية بين الأم والأطفال
تشكو أغلب المتزوجات في مصر من "إلقاء" مسؤولية تربية الأطفال على أكتافهن دون مشاركة حقيقية من الأزواج. وأعني بالمشاركة هنا المناصفة في حمل عبء التربية بين الزوج والزوجة، إيمانًا من الزوج بأن هذه المناصفة هي دوره تجاه الأطفال كإنتاج مشترك. ولا شك في أن الدور الاجتماعي للنساء والذي يُقوم في الأساس على إعدادهن اجتماعيًا للدور الأمومي منذ الصغر، يُرسّب داخل غالبيتهن ارتباطات عاطفية مُسبقة تجاه الأطفال؛ تجعلهن متأهّبات نفسيًا للتورط فيهم عاطفيًا. ويُفسّر التورط العاطفي مع الأطفال بأنه "أمومة" ويتم ربطه بالدور الاجتماعي للنساء، وبالتبعية تصبح مسؤولية الأطفال الأولى "مُلقاة" على عاتق النساء، حتى مع مساهمة التورط العاطفي في التخفيف منها. من الأرجح، أنّ مثل هذا التعقيد يزيد الفجوة بين الآباء والأطفال ويحوّل العلاقة بين الأطفال والأمهات إلى علاقة ثنائية تلعب فيها الأم دور الوسيطة بين الأب والأبناء، ويكون الأب مجرد طرف خارجي. 

هذه العلاقة الثنائية لا تقتصر على التعلّق العاطفي بين الأم والأطفال، وإنما تضع نمطًا واحدًا لتعميم علاقة "كل" الأمهات بأطفالهن. فنجد أن هذا التنميط لدور الأم، يتطلب تصرفات ودرجة حميمية من المشاعر تجاه الأطفال وافتراضات للتورط العاطفي والتي إن غابت عن الأم، جرت الإشارة إليها بالتقصير والإهمال والجحود، وغيرها من الصفات التي تتناقض مع العلاقة الثنائية ذات الطابع العاطفي بين الأم والأبناء. 

متى "ترمي" النساء الأطفال؟

عند خروج النساء عن النمط المتعارف عليه مجتمعيًا للأمومة، يُعاقبن بنفي الأمومة عنهن. فالأمهات في هذا السياق يطوّرن مشاعر خاصة تجاه أطفالهن، تجعل منهن مُترادفات للأطفال ومُلتصقات بهم بحيث يُصاغ أي انفصال بين الأم والأطفال بأنه تقصير من الأم عن دورها و"رمي" للأطفال. وهزليًا لا تُطبق نفس القاعدة على الآباء والذي قد يُعد عدم التصاقهم بالأبناء منذ ولادتهم انفصالًا أيضًا. فلأن تربية الأبناء تم ربطها بالأمومة أكثر من الأبوّة، بات كل أب منفصل بطبيعة الحال عن أبنائه. وعلى الرغم من أن أغلب الآباء يستخدمون الأطفال كورقة ضغط على الأمهات، فبعض الأمهات يستخدمونهم في المقابل لتهديد الآباء. بالطبع لا أعني التهديد بالحرمان، ولكن من الإفراط. والمقصود بالإفراط هنا، هو الإفراط في التواصل مع الأبناء، بحيث تتخلى الأم عن دور الوسيطة بين الأب والأبناء، ليتعامل الأب معهم بشكلٍ مُباشر. هذه الحال التي تعتمد في الأساس على العلاقة الثنائية بين الأم والأطفال، قد تستخدمها الأم للضغط على الزوج الذي لم يجبره دوره الاجتماعي كرجل على درجة من التعلق عاطفيًا بالأطفال تسمح له باحتمالهم كطرف أساسي في حياته.

تلك الاستراتيجيّة تنجحُ في أغلب الحالات، حيث أنّ الأب الذي اعتاد التعامل مع الأبناء عن طريق الأم كوسيطة، لا يحتمل مواجهة متاعب التربية وحده دون هذه الوساطة.

الرمي في اللغة العربية

الرمي في اللغة العربية يحمل معنيين أساسيين. الأول، بمعنى التنازل والثاني بمعنى التصويب. فاستخدام لفظ "رمي" بمعنى "تنازل" يتنافى مع نمط الأمومة ويتعارض مع التورط العاطفي الذي تطوّره النساء تجاه أطفالهن نتيجة للعلاقة الثنائية، وبالتالي يصبح كوصمة أو سُباب لأي أم غير ملتزمة بالصفات الملاصقة للنمط. يشمل هذا، بالطبع، قرار الأم بالزواج مرة أخرى بعد الطلاق، والذي يُحتّم عليها بموجب القانون المصري أن "تتنازل" عن حضانة أطفالها للجد أو الجدّة من العائلتين في حال زواج الأب. ورغم أن الأب نفسه قد "تنازل" أيضًا عن الأطفال، إلا أنّنا نجد الوصم بالتنازل مقصوراً على الأم. أما الاستخدام الآخر بمعنى "التصويب" فيُمكننا التلاعب به لفظيًا، لكشف تناقضات المعنى الأول.

فرَمي الأطفال بغرض معاقبة الأب، في رأيي لا تحمل معنى التنازل قدر ما تحمل معنى الرماية. ولكن لا يُمكننا إغفال الأب كطرف "مُتنازل له" عن الأبناء، وكيفية استقباله وتفاعله مع هذا التنازل، وما قد يعكسه من استنكار لتربية الأب للأبناء وهو عكس الدور المتعارف عليه اجتماعيًا للأبوّة. كما أنها قد تكون مؤشرًا على أن الآباء "فاشلون في التربية" فيعتبر ترك الأطفال لهم "رمياً"، أو أن يكون الأب نفسه مُعاقباً بالأطفال وهو الاستخدام الآخر للفظ "رمي" بمعنى التصويب والرماية، والذي يعكس أن تربية الأم للأطفال نفسها هي عقاب للأم لا يجوز قلبه رأسًا على عقب ليُصبح عقابًا للأب. كما لا يُمكننا كذلك تجاهل فرضية أن تربية الأطفال لا تناسب الدور الرجولي للأب وتقلل من قَدره اجتماعيًا كرجُل.

إذًا، فالرمي هنا باستخدام التفسيرين يُفاجئنا جميعنا ليس فقط بأن هناك صعوبة حقيقية في تجربة تربية الأبناء والتي هي مثقلة بكاملها على كاهل الأم، وإنما بصعوبة الانتقال بين الأدوار الاجتماعية لكل من الرجال والنساء داخل منظومة الزواج. 

في النهاية، هذه المناوشة وغيرها مطلوبة لفتح ساحات نقاشية عمّا قد يعتبره البعض منّا "تابوهاً" اجتماعياً كالأمومة ومترادفاتها والأبوّة ومتطلباتها، وكيف يُمكن لكل من الرجال والنساء الانتقال على مسطرة الأدوار الاجتماعية لكل منهما، وأسباب ما قد يحمله هذا الانتقال من نبذ أو وصمات اجتماعية.

دلالات
B831FE42-EA06-442C-B1AC-D58CDE96BA74
غدير أحمد

ناشطة نسوية مصرية، وباحثة متخصصة في دراسات المرأة النوع والاجتماعي