الأدب والترجمة.. إنقاذ حياة واحدة

04 نوفمبر 2019
(تيجو كول أثناء مشاركته بـ"احتفالية فلسطين للأدب" 2014،روب ستوثارد)
+ الخط -

المترجم عاملٌ على عبّارة بحرية ينقل معنى من كلماتٍ على شاطئ هناك إلى كلماتٍ على شاطئ هنا. يبدو هذا التوصيف الذي يصل إليه الكاتب والمصور الفوتوغرافي النيجيري الأميركي تيجو كول (1975) مفاجئاً إلى حد ما، وخاصة لمن اعتادوا على التوصيف التقليدي بمختلف تنوّعاته لشخصية وعمل المترجم، سواء كان القول إنه مجرد ناقلٍ لمعنى من لغةِ المصدر إلى لغة الهدف، أو القول إنه يقدّم بترجماته مبتكراتٍ في الآداب المأزومة أو الناشئة حديثاً.

إلا أن ما جاء به هذا الكاتب، وهو يتحدث مؤخراً في محاضرة في "بيت ثقافات العالم" في برلين، من ربط بين ما يشبه عبّارة بحرية، الذي تدل عليه كلمة "ترجمة" في أصلها اللاتيني، من جانب، وبين الأعمال الأدبية وإنقاذ حياة إنسان ومساعدة اللاجئين على عبور الحدود بين الدول من جانب آخر؛ ليس مفاجئاً إلا بالنسبة للثقافات النائمة في أقبية أمسها، أما بالنسبة للثقافات المستيقظة فهو جزء من اتجاهات حديثة بدأت تتحدث عن المترجم بوصفه عاملا من عمال التغيير الثقافي الفعال، وتثمن دور اللغة والترجمة في تصفية استعمار اللسان والمخيلة كما يرى أستاذ التاريخ الفليبيني فيسانتي رافائيل (1956).

والحق أن أكثر الأفكار إثارة للدهشة التي جاء بها هذا الكاتب، مرة باستعارة من الروائي الهاييتي الكندي داني لافيريير (1953) ومرة باستعارة من الروائية الهاييتية الأميركية إدويج دونتكا (1969) كانت فكرة أن الكاتب يكتسب جنسية من يقرأ له، وفكرة أن معنى الكاتب لديه هو ذلك الذي يبدع على حافة الخطر لأناس يقرأون وهم على الحافة ذاتها. وأن كلماتك أياً كانت درجة أهميتها، ربما يخاطر أحدهم بحياته (أو حياتها) ذات يوم في مكان ما ليقرأها.

تنطلق فكرة اكتساب جنسية من يقرأ لك، الأكثر جدة، بداية من "أن كل عمل من أعمال الترجمة يحمل نصاً وينقله إلى لغة أخرى"، وبناءً على ذلك يجد نفسه، مع ترجمة رواياته إلى عددٍ من اللغات، حاضراً ككاتب في أدب كل لغة من هذه اللغات.

ويكتب أن داني لافيريير عبّر عن هذه الفكرة التي تبدو غريبة أفضل منه حين قال في روايته المسماة "أنا كاتب ياباني": "بعد سنوات، حين أصبحتُ كاتباً، سُئلتُ "هل أنت كاتب هاييتي؟ أم كاريبي؟ أم فراكوفوني؟ وكنتُ أجيب دائماً بأنني اكتسبتُ جنسية قارئي، أعني أنني حين يقرأ كتبي قارئ ياباني أصبح كاتباً يابانياً فوراً".

ويلقي تيجو كول المزيد من الأضواء على هذه الفكرة، حين يضيف أن أشياء كثيرة موجودة في الترجمة؛ فوجود من يقرأه في لغات يجهلها يشعره بمتعة استثنائية، وهناك أيضاً الطرق التي تجعل فيها الترجمة جوانب من النص مرئية، وتُحدث تأثيراً لم يكن يدرك أنها تتوفر فيه. مثال ذلك أنه حين يفكر بالترجمة الإيطالية لإحدى رواياته يمكنه الشعور بحضور إيتالو كالفينو وبريمو ليفي، ويستثيره ويبهجه أن له الآن بطريقة من الطرق نصيباً في الجمهور الذي يقرأ أعمالهم.

ويضيف: "وحين أترجَمُ إلى اللغة التركية ما أفكر فيه هو كآبة ناظم حكمت السياسية.. وأولئك الذين يحبّون أشعاره ربما سيجدون وهم يقرأونني في التركية شيئاً يحبّونه في رواياتي أيضاً. وأشعر في اللغة الألمانية، ربما أكثر من شعوري في الإنكليزية، بحضور أطياف كتّاب صاغوا حساسيتي الأدبية، مثل و.ج. زيباد، وتوماس مان، وفالتر بنيامين، وهيرمان بروش وآخرين، وأُصبح بفضل الترجمة كاتباً ألمانياً أيضاً.

وهنالك جوانب أخرى تحملها الترجمة لعل اكثرها لفتاً للنظر ما يقوله عن مترجمة أعماله إلى الإيطالية يويا ويرزوني. فخلال ترجمتها لمقالة له عنوانها "عن سواد الفهد"، شكلت كلمة "سواد" بالنسبة لها تحدياً، لأن المقالة تتناول عدداً من القضايا بدءاً من العرق فاللون الأسود مروراً بالاستعمار، وصولا إلى حركة الفهود السود الحقوقية وتاريخ حدائق الحيوان وراينر ماريا ريلكه. ولم تجد المترجمة الكلمة المناسبة التي تعادل مثل هذه الكلمة المتعددة الطبقات في الإيطالية، لا في كلمة نيريتسا Nerrezza ولا في كلمة نيجرودودني Ngritndine مع أنهما توحيان بمعنى كلمة "زنوجة"، فلجأت إلى ابتكار كلمة لا توغل بعيداً في الاتجاه البصري ولا تمحو دلالة الكلمة التي تشير إلى العرق، وهي ناريتا Nerita، فأدخلتها في العنوان ووفت بالمعنى المركب المقصود، فكانت حدثاً سعيداً بالنسبة له عبّر عنه بالقول: "دخلت هذه الكلمة في الاستعمال وتبناها معجم، فكانت كلمة احتاجتها الإيطالية، أدخلتها مترجمتي، وتقبّلتها إيطالية دانتي ومورانتي وفيرانتي.. ".

وتأتي النقلة الأخرى حين يربط بين عبّارة تنقل معنى وبين عبّارة تنقل إنساناً إلى بر الأمان، ومثاله في ذلك محنة القبطانة الألمانية بيا كلمب التي ساهمت في إنقاذ لاجئين من الغرق في البحر الأبيض المتوسط، فاتُّهمت بتقديم مساعدة لمهاجرين غير شرعيين، ومحنة القبطانة الإيطالية كارولا راكيتي المماثلة التي اعتقلت لأنها قادت زورق إنقاذ آخر.

وفي ضوء هذا يطرح السؤال: "هل نؤمن أن الكائنات الإنسانية على تلك الزوارق المعرضة للغرق هي من صنف البشر الذي ننتمي إليه نحن أيضاً؟" ويجيب: "على الرغم من أن لا وجود إلا لجواب واحد ممكن، تحيط بنا تفسيرات تغرينا بأن نقدّم الجواب الخطأ، أو ذلك الجواب الذي يجعلنا نعتقد أن راحتنا وما يناسبنا أكثر أهمية من حياة إنسان". ويضيف مثالا آخر؛ الجغرافي الشاب الأميركي سكوت وورن الذي يعمل مع منظمة اسمها "لا مزيد من الموت" في أريزونا، يسعى أفرادها إلى مساعدة اللاجئين على عبور الصحراء بأمان، بتوفير الماء والطعام والمأوى لهم إن أمكن. وبسبب هذا الجهد المقدس، حسب تعبير تيجو كول، تم اعتقال "وورن" واتهم بأنه يخبئ مهاجرين.

ويعقب على هذا بسؤال آخر يقيم هذه المرة صلة غير متوقعة بين عمل الكتّاب والمترجمين وأفعال النشطاء في المجالات الإنسانية" هل يمكننا إقامة صلة بين عمل الكتّاب والمترجمين الإشكالي والمتواضع في أغلب الأحيان، وبين الأفعال الشجاعة والمكلفة لأناس من أمثال بيا كليمب وكارولا راكيتي وسكوت وورن يحمون حياة أناس آخرين"؟ أو بعبارة أوضح "هل ثمة ما يربط بين العمل الأدبي والمخاطر التي يقدم عليها بعض الناس لحماية الحياة الإنسانية"؟ ويجيب: "أعتقد أن الجواب.. نعم.. لأن أفعال اللغة يمكن أن تكون بحد ذاتها أفعال شجاعة، تنبهنا، كما يفعل الأدب وأعمال النشطاء تحديداً، إلى طبيعة الحواجز والحدود التعسفية، والتي هي تقليدية في جوهرها".

وهنا يتذكر أو يفكر بكلمات الروائية الهاييتية الأميركية إدويج دونتكا (1969)، وكتاب مقالاتها المعنون "أبدع على حافة الخطر: الفنان المهاجر وهو يعمل". تقول في كتابها هذا: "في مكان ما، إن لم يكن الآن، ربما في المستقبل بعد سنوات، مستقبل من النوع الذي ربما ما زال علينا أن نحلم به، قد يخاطر أحدهم بحياته ليقرأنا أو تخاطر إحداهن بحياتها لتقرأنا، وفي مكان ما، إن لم يكن الآن، ربما في المستقبل بعد سنوات، ربما نحمي حياة أحد ما أيضاً".

ويمضي بأفكاره إلى أكاديمية تركية وضعت توقيعها على رسالة تدين فيها قتل الأكراد وتدعو إلى إيقاف العنف، وكان أن اصبحت هي وما يقارب ألف شخص من كليات وجامعات متنوعة عرضة لمحاكمات وأحكام بالسجن لمدد طويلة. ويرى أن هؤلاء حاولوا بكتابة اسمائهم بجرّة قلم حمل مواطنيهم عبر صحراء اللامبالاة وفوق أمواج الاضطهاد، ولهذا السبب أصبحوا يواجهون تبعاتٍ مماثلة لما واجهته "كليمب" و"راكيتي" و"وورن". ويستنتج أن هذه الأكاديمية وجدت نفسها في خطر جسيم بسبب موقفها، وهكذا أصبحت هي من جانبها بحاجة إلى أن تنقل إلى شاطئ أمان أعظم لأنها فعلت ما هو صواب، ويضيف مشدّداً "ويجب أن نفعل الأمر نفسه أيضاً".

ومن هذه المواقف يمضي إلى وصف منحوتة ترجع إلى القرن الرابع ق.م صنعت في أتروريا (منطقة في وسط إيطاليا المعاصرة) تمثل شاباً يحمل رجلا عجوزاً على ظهره، وهي تمثل في الحقيقة إينياس الذي حمل أباه على ظهره خارج خرائب طروادة المحترقة، وتماثل تماثلا مذهلا مشهداً في جدارية "الحريق في بورجو" في حاضرة الفاتيكان المرسومة في القرن السادس عشر. ثم يصف صورة فوتوغرافية صادفها منذ سنوات قليلة لشاب عراقي يزيدي يحمل أباه على ظهره في طريقه إلى الهرب من "داعش" سيراً على الأقدام.

ويسأل لماذا نسمح بحدوث هذا لمواطنين هم زملاء لنا، وهم كذلك حقاً لأن "المواطنة" لا شأن لها بما يحمله أو لا يحمله الشخص من أوراق. فكلنا نعيش ونموت تحت سلطات متماثلة جوهرياً، وكلّنا خاضعون للنظام المصرفي الدولي ذاته، ولكن ليس كلنا يمتلك مواطنة معترفاً بها؟ ثم ينعطف ويسأل: "كيف يمكن أن يساعدنا الأدب هنا؟" جوابه، بعد أن يلاحظ أن الأدب لا يوقف اضطهاد البشر ولا اضطهاد نشطاء المنظمات الإنسانية، هو أن الأدب يمكن أن يحفظ الحياة، مجرد حياة واحدة في وقت من الأوقات، يقول: "ربما حين تنهض من فراشك فجراً وتتناول عن الرف مجموعة شعرية، أو تستغرق في قراءة رواية عظيمة، فيحدث هنا في العمق شيء منعشٌ وحافظ".

صحيح أنه يتحدث عن تأثير الأدب بصيغة المفرد، ولكنه يدرك أنه ليس وحده في هذا العالم. وعن قيمة هذه الحياة الجماعية يأتي الفرنسي ألبير كامي ليقول بلسانه: "إن الأمل في قيمة حياة الجماعة يستيقظ ويغذيه ملايين الأفراد الذين يمحون في عملهم وشغلهم اليومي الحدود والحواجز وأكثر متضمنات التاريخ فظاظة".

وأخيراً تذكّره قيمة حياة الإنسان هذه بفكرة يتردد صداها عبر العصور؛ ويشير تحديداً إلى الآية القرآنية 32 الواردة في سورة المائدة "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً". ويختم محاضرته بهذه الكلمات: "على عكس ضجيج الثقافة الشائع حولنا.. وجدتُ في هذا الشيء المتواضع المدعو أدباً ما يذكرني بضرورة إلغاء الحدود وحمل الآخرين عبرها، وتذكير الآخرين الذين يحملونني بهذا أيضاً.. تصوروا أنكم أمام حالة طارئة؛ بيت يحترق، زورق يغرق، قضية أمام محكمة، هجرة لا تنتهي، كوكب يتغيّر.. وعليكم حمل آخرين، وأن يحملكم آخرون".

المساهمون