الأدب العربي في البوسنة... بين الماضي والحاضر

08 نوفمبر 2015
(سراييفو: دار توغرا، 2015)
+ الخط -
في ندوة العلاقات العربية - البلقانية التي عُقدت في الدوحة خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، أظهرت عدة أوراق قُدمت من البوسنة على النظرة المغايرة (الإيجابية) للعرب في الأدب البوسني وعن دوافع استخدام الحروف العربية في كتابة اللغة البوسنية، كذلك عن حضور اللغة العربية في البوسنة بين الماضي والحاضر وغيرها من المواضيع الأخرى.

وفي هذا السياق، لا بد من ذكر الانعطاف المهم الذي حصل عام 1950 مع افتتاح معهد الاستشراق الذي يركّز على جمع ودراسة ونشر المخطوطات الشرقية الموجودة في البوسنة وقسم الاستشراق في جامعة سراييفو الذي كان يخرّج باحثين في هذا المجال. فمع هذا الانعطاف ولد لدينا جيل جديد من المستشرقين الذين كانوا يعتبرون المخطوطات الشرقية (ومنها العربية) التي كتبها أبناء البوسنة جزءا من هوية الذات، فنشروا بعض تلك المخطوطات، ومنها ما كتبه أبناء البوسنة من أدب في اللغة العربية. وفي الوقت نفسه كان هذا الجيل يعتبر أن من مهامه التعريف بالأدب العربي سواء قديمه أو جديده، وهو ما كان يلقى رواجا كبيرا في البوسنة وبقية يوغسلافيا أيام عدم الانحياز والعلاقات الخاصة التي ربطت يوغسلافيا التيتوية بالعالم العربي.

هكذا كان الربع الأخير للقرن العشرين أيام زمن الأدب العربي الذي ترجمت منه الكثير من المعلّقات السبع إلى قصائد محمود درويش الأخيرة التي حرص لأجلها على زيارة سراييفو قبل وفاته للاحتفاء بصدور مختارات من شعره في 2007 وتسلّم الجائزة الخاصة التي مُنحت له.

في أيام زمن الأدب العربي تُرجمت أعمال كبار الشعراء (عبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأدونيس وغيرهم)، والكتّاب (توفيق الحكيم، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، زكريا تامر وغيرهم).

ولكن مع انهيار يوغسلافيا والحروب خلال 1991-1999، انهارت البنية التحتية (سوق واحدة كبيرة للكتاب)، وتغيّرت الأولوية في العلاقات (الانضمام للاتحاد الأوروبي) وفي اهتمامات المستشرقين في الترجمة، ولذلك لم يعد للأدب العربي حضور كبير بعد الروايات التي ترجمت لنجيب محفوظ إثر حصوله على جائزة نوبل كما في كل مكان بأوروبا. وباستثاء ترجمات الجيل الجديد الواعد من المستشرقين البوسنيين، مثل منير مويتش (الذي ترجم أخيرا "رجال تحت الشمس")، وميرزا سارايكيتش (الذي ترجم مختارات محمود درويش)، لا يزال هناك من الجيل المخضرم من يتابع عمله ليصدر من حين الى آخر ترجمة جديدة تذكّر بأيام زمن الأدب العربي قبل ربع قرن وأكثر، ومن ذلك أسعد دوراكوفيتش الذي صدرت له أخيرا ترجمة رواية يوسف إدريس "الحرام".

إنّ صدور رائعة إدريس "الحرام"بترجمة دوراكوفيتش تعيد القارئ البوسني الى أيام زمن الأدب العربي، حين كان إدريس في تألقه وحين كان الأدب العربي في ذروة ترجمته في يوغسلافيا السابقة. فدوراكوفيتش يمثل ذلك الجيل المخضرم الذي عرّف بالأدب العربي من قديمه (المعلقات السبع)، إلى حديثه (محمود درويش)، في ترجمات أخّاذة جذبت القارئ وجعلته يستمتع بقراءة الأدب العربي بلغته الأم. فقد أصدر دواركوفيتش، الذي بدأ عمله بقسم الاستشراق في جامعة بريشتينا عام 1976، مجموعة مختارة لمحمود درويش بعنوان "قصائد مقاومة" في 1984، وأتبعها بمختارات شعرية من المشرق والمغرب لحوالي خمسين شاعرا ليتألّق بأول ترجمة مباشرة من العربية لـ"ألف ليلة وليلة" في 1999، ويقوم في غضون ذلك بترجمة روايات عربية مميّزة كـ"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، و"قصة زهرة" لحنان الشيخ وغيرها، ليحظى بجائزة الشارقة - ا-يونسكو تقديرا لجهوده في خدمة الثقافة العربية لعام 2003. وخلال هذه العقود لم يكن دوراكوفيتش مجرد مترجم بل إن اسمه اشتهر كدارس متميّز للأدب العربي بمؤلفاته التي كان آخرها "علم الشرق" الذي ترجم إلى العربية (الكويت 2010) وصدر أخيرا بالانكليزية عن دار روتلدج بعنوان "علم الشرق: جمالية الشعر العربي القديم والكلاسيكي".

ومن هنا تأتي رواية "الحرام" بترجمة دوراكوفيتش لتمثل التقاء اسمين كبيرين: يوسف إدريس برائعته المعروفة وأسعد دوراكوفيتش بخلاصة خبرته في ترجمة ودراسة الأدب العربي التي امتدت أربعين سنة تقريبا (1976-2015)، وهو اللقاء الذي يشكل حافزا بحد ذاته للقرّاء في البوسنة على اقتناء هذه الرواية والتمتع بهذه الترجمة. وقد حرص دوراكوفيتش على الإبقاء على العنوان الأصلي للرواية لأنه يستخدم أيضا في اللغة البوسنية بالمعنى نفسه، وهو من مئات المفردات العربية التي دخلت وترسّخت في اللغة البوسنية ولا تزال تميّزها عن شقيقاتها الكرواتية والصربية والمونتنغرية. في الترجمة الصادرة اكتفى دوراكوفيتش بالتعريف بيوسف إدريس في نهاية الكتاب، بينما ترك لاثنين من تلاميذه اللذين تابعا مسيرته أن يقولا ما لديهما عن الرواية وصاحبها. ففي تقييمه للرواية يعتبر منير مويتش، رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة سراييفو، أن "الحرام" هي أنجح رواية ليوسف إدريس التي كشف فيها عن معاناة الفلاحين في الريف المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين. وفي مثل هذا المحيط، كما يضيف مويتش، لا يمثل "الحرام" ما حرّمه الله فقط بل ما يحرّمه المجتمع على البسطاء، أي أن الحرام يصبح حراما على البسطاء حين يخطئون ولا يشمل الكبار الأقوياء في المجتمع الذين يعرفون كيف يدارون أخطاءهم ويخفونها عن القانون.

أما د. ميرزا سارايكيتش، الأستاذ بقسم الدراسات الشرقية في جامعة سراييفو، الذي تابع خطى أستاذه وأبدع في ترجمة آخر مختارات شعرية لمحمود درويش، فقد أشاد في تقييمه بيوسف إدريس باعتباره من المبدعين الحقيقيين الذي تحولوا إلى كلاسيكيين، أي أن أعمالهم لا تزال تقرأ باهتمام وستبقى تُقرأ في الأجيال القادمة على الرغم من تغيّر الظروف التي تتناولها الرواية. وأشاد سارايكيتش بـ"الحرام" باعتبارها نموذجا للواقعية الصاعدة في الأدب العربي آنذاك، التي عرف كيف يوظفها يوسف إدريس للكشف عن معاناة الفلاحين المصريين من أصحاب الأراضي المقيمين في المدن، وهو بذلك يوجّه نقدا لاذعا للمجتمع المصري "الحديث" والتغييرات الاجتماعية التي شملت "منظومة القيم" في المجتمع.

ومن الجدير بالإشارة إلى إجماع مويتش وسارايكيتش على نجاح أسعد دوراكوفيتش في ترجمته لهذه الرواية التي تمثل زبدة خبرته الطويلة في الأدب العربي، وبالتحديد نجاحه في نقل جو الريف المصري بكل تفاصيله خلال النصف الأول للقرن العشرين إلى اللغة البوسنية بجمالية واضحة تجعل القارئ يشعر كأن يوسف إدريس كتب روايته لهذه اللغة.

(أكاديمي كوسوفي / سوري)

اقرأ أيضاً
الحج من البوسنة
حارث سيلاجيتش: مستدعياً الأندلس وفلسطين
رحيل ستيبتشفيتش: مؤلف "تاريخ الكتاب" الذي أعاد للشرق اعتباره

المساهمون