الأحادية والاستفراد عقدة الإسرائيلي المزمنة

07 يونيو 2016

المشاركون بالاجتماع الوزاري في باريس لأجل عملية السلام (3يونيو/2016/Getty)

+ الخط -
أعرب الإسرائيليون، منذ البداية، عن توقعاتهم، بل وتمنياتهم الفشل للمبادرة الفرنسية، واعتبرت الخارجية الإسرائيلية اجتماع باريس "فرصة فائتة"، لم تؤد إلا إلى "إبعاد احتمالات السلام"، فيما حذّر وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرولت، من "خطر جدي" يهدّد الحلّ القائم على "مبدأ الدولتين"، لافتاً إلى أن الوضع يقترب من "نقطة اللاعودة". آملا التحرّك في شكل عاجل للحفاظ على (حلّ الدولتين)، وإحيائه قبل فوات الأوان"، مكرراً عزم فرنسا على تنظيم مؤتمر بمشاركة الإسرائيليين والفلسطينيين قبل نهاية العام. 
في ختام اللقاء، أصدر المجتمعون بياناً يؤكد أن الوضع القائم حالياً لا يمكن أن يستمر، معربين عن "القلق" حيال الوضع الميداني وسط "استمرار أعمال العنف والأنشطة الاستيطانية". كما أشار إلى جوهر الخلاف الرئيس بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، في شأن النصوص المرجعية الدولية، خصوصاً قرارات الأمم المتحدة أساساً للمفاوضات. وتلك هي الإشارة الجوهرية التي يرفضها الإسرائيليون، إذ إنهم يريدون الاستمرار في التعاطي مع الوضع القائم بدون أي مرجعية دولية، وإحالة المفاوضات إلى مجرد مباحثات ثنائية لا أفق لها، وهذا هو سر رفضهم التعاطي مع الجهود الدولية، أو تدخل أي دولة، حتى ولو كانت من أوثق حلفائها كالولايات المتحدة.
وبذا بات من المؤكد أن "حل الدولتين"، كمفهوم سياسي أو سيادي، لا يحمل معنى واحدا، فكل طرف يعني له هذا المفهوم ماهية مختلفة، لا معيار واحداً أو وحيداً له، وما يطرح اليوم لا يترجم إمكانية ظهور أو تحقق حل سيظهر قريباً في أفق الصراع، أو نشوء دولة أخرى إلى جانب دولة الكيان الإسرائيلي المجسّدة منذ 1948، ويومها كان "قرار التقسيم" هو المسألة التي كان ينبغي بموجبها قيام الدولة الفلسطينية، لكن ذاك القرار مضى إلى الفشل أو الإفشال. وعلى الرغم من مرور 68 عاماً على تطبيق وعد بلفور (1917) بإقامة "وطن قومي لليهود" فوق أنقاض الوطن الفلسطيني، ونجاح تجسيد هذا الوعد، ما زالت الدولة الفلسطينية بعيدة المنال.
وحتى وفق ما بدا "إمكانية واقعية" في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو التي "اشترطت" قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، كنهاية للصراع عبر تسوية دائمة؛ لم تنتج تلك الاتفاقات سوى تعقيداتٍ جديدة، والتفافات أكثر تعقيداً حول الهدف. وبعد أكثر من عشرين عاما، ما زال يتعذّر تحقيق "حلم الحل": وهم "حل الدولتين"، لتحل محله دولة المستوطنات والجدران، لتجسّد إسرائيل الصغرى أو الأولى إسرائيل ثانية أكبر، وهي تمتد لتطاول معظم الأراضي الفلسطينية، حتى في ظل وجود السلطة الفلسطينية واعتراضاتها، واستمرار حلم تجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة في نطاق الأراضي التي احتلت عام 1967.
كل هذا على الورق، وعبر وعود لفظية، ما زالت تتمّنع الوقائع على الأرض من مقاربتها، ولو في حدود دنيا. فما عدا مما بدا حتى يُعاد اليوم "تجديد الأمل" في ظل حكومةٍ هي الأكثر تطرفا، والأكثر قابلية لتحولات فاشية وعنصرية؛ على صعيد التشريع والسياسة والقوانين ومناهج التعليم في المدارس وكامل أوجه الحياة؟
يريد الإسرائيلي أن يستمر زواج المصلحة الاستعمالي أو الزبائني، بينه وبين الفلسطيني، فذلك
أضمن وأنجح له ولأهدافه في استمرار مخططات التهويد للأرض الفلسطينية؛ وفي الوقت الذي أفشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كل التحركات غير الأحادية، وأفشلت نتائجها التفاوضية التي كانت تعقد بإشراف أو مشاركة دولية، كانت اتفاقات أوسلو إنجازها الوحيد، كونه الاتفاق الأحادي الذي جرى تلغيمه بالشروط والمماطلات التي لم تؤدّ إلى أي تفسير واضح للشروط التي دوخت العقل الفلسطيني، ولم ترسِه على أي بر حتى الآن؛ سوى تلك الجرجرة المتواصلة من دون فائدة تذكر للفلسطينيين.
ومنذ بداية طرح المبادرة الفرنسية، حسم الإسرائيلي موقفه منها برفضها، وبالتالي، العمل على إفشالها، على الرغم من ضمان اصطفاف الموقف الأميركي إلى جانبه وجانب أهدافه غير الحصرية، لجهة إدارة مفاوضات ثنائية لا متعدّدة، كما لجهة تثبيت أطر التسوية الممكنة على قاعدة استمرار إدارة الصراع، لا إنهاءه؛ حتى في ظل الأحاديث المتكررة، خصوصاً الآن في أعقاب انضمام ليبرمان وحزبه إلى الحكومة، وتصريحات أقطابها الأكثر تطرفاً عن "حل الدولتين" وفق ما ورد في خطاب بار إيلان، على الرغم من عدم جدية الخطاب، وعدم وضوح أهدافه، علاوة على ديماغوجيته المفضوحة.
لذلك، وفي أعقاب انتهاء اجتماع باريس مباشرة، جدّدت الحكومة الإسرائيلية رفضها المبادرة الفرنسية، وحمّلت المجتمع الدولي مسؤولية مواصلة الطرف الفلسطيني التهرّب من المفاوضات. وكالعادة، ادعى بيان الخارجية الإسرائيلية أن "التاريخ سيسجل في صفحاته أن مؤتمر باريس أدّى فقط إلى تصلب المواقف الفلسطينية وأبعد السلام". وهذا هو ديدن المواقف الإسرائيلية "المبدئية" التي ترفض إشراك المجتمع الدولي، أو الاحتكام إلى أي مرجعياتٍ دولية، في آليات التفاوض. وفي المقابل، تصر على مفاوضات مباشرة وبدون شروط، وتدّعي أن المؤتمر الدولي يساعد الفلسطينيين على التصلب في مواقفهم. على الرغم من ذلك، هناك تماثل شكلي بين أكثر من طرح لـ"حل الدولتين" الذي يؤكد عليه أقطاب الائتلاف الحكومي الإسرائيلي من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى، بتأكيده دعم "حل الدولتين"، إسرائيلية وفلسطينية، وتعهد السعي إلى إقناع الطرفين باستئناف مفاوضات السلام، على الرغم من رفض إسرائيل العلني لأي تدخل غير أميركي في هذا الملف.
إلا أن ما بدا تماثلا في الطرح، لم يكن أكثر من تماثل شكلي، ليس إلا، فهذا التماثل مغاير للمنطق ومضاد للواقع، طالما أن "حل الدولتين" الإسرائيلي الطابع، يراد له أن يتحقق أحادياً، بينما يرفض الإسرائيليون "حل الدولتين" ذات الطابع الدولي، والذي اعتبر نوعاً من التصلب، فأي دولتين يريد الإسرائيلي إن لم يكن دولته هو؛ دولة الكيان: (الدولة الصهيونية)، أما "الدولة" الأخرى فهي شكلية، لا مضمون ولا ماهية لها، تعيش تحت خيمة الاحتلال الإسرائيلي؛ في كنفه وتحت حمايته ورحمة قمعه ووحشيته؟
أليس هذا ما استمر أكثر من عشرين عاما منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وتسليم السلطة الفلسطينية بعض ما اتفق عليه من مناطق، فيما تصلب الإسرائيليون، حتى اللحظة، إزاء تسليم السلطة مناطق أخرى؛ فأي تصلب فلسطيني ذاك الذي يتحدّث عنه الإسرائيليون الآن؟
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.