الأب في الوثائقي المصري: مصالحة أو ارتباك؟

13 ابريل 2018
محمد رشاد ووالده في "النسور الصغيرة" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
مع اندلاع "ثورة 25 يناير" (2011)، شعر جيلٌ كاملٌ من الشباب المصريين ـ للمرّة الأولى منذ عقود طويلة ـ بأنه متحكّمٌ بزمام الأمور. إنها لحظة استثنائية، شهدت تراجع السلطة الأبوية، وإعادة النظر في المنظومة الحاكمة في جوانبها كلّها، ومنها الجانب الاجتماعي. وبعيدًا عن مآل الثورة، سياسيًا واقتصاديًا، فإن اهتزاز "سلطة الأب/ الحاكم/ الجيل الأكبر سنًا" تركت أثرًا استثنائيًا لا يزال مستمرًا في مجالاتٍ كثيرة، ومنها السينما.

مخرجون كثيرون تمكّنوا، بأفلامهم الجديدة، من إيجاد مكان لهم ولأعمالهم في الساحة السينمائية، بالاستفادة، بشكلٍ أو بآخر، من أثر الثورة. لكن اللافت للانتباه كامنٌ في أن 3 أفلام وثائقية تناولت مباشرة العلاقة بين صنّاعها وآبائهم. لا يمكن عدم الربط بين "ثورة 25 يناير"، كحدثٍ مؤثّرٍ وجارف يقوم في جوهره على "قتل الأب" وتحدّي سلطته بالمعنى الواسع، واللحظة التي تلت ذلك، كمحاولة مخلصة للتصالح معه.

أول الأفلام الـ3 يحمل عنوان "جاي الزمان" (2014) لدينا حمزة، ابنة الشاعر الغنائي محمد حمزة، الذي كتب عددًا من أشهر أغاني عبد الحليم حافظ. يبدأ الفيلم من شعور الابنة بالوحدة بعد وفاة والدها، وبحثها في ملفاته وأعماله عما يؤنسها، فتغرق في "نوستالجيا" جارفة، وفي تقديرٍ له واحتفاءٍ به وبحكاياته، مع المطربين والفنانين، من دون تناسي قصّة حبّه الرومانسية مع والدتها المذيعة التلفزيونية. في أهم لحظة في الفيلم، تلتقط دينا حمزة روح ما تحكيه تمامًا، بتناولها قصّة سيدة كبيرة في السنّ، تحب عبد الحليم حافظ إلى درجة الهوس، وتتحرّك بصُوَره وحكاياته في كلّ مكان، كأنها لم تبارح لحظة وفاته أبدًا. تعلّق دينا على أن السيدة تشعر بالحنين إلى ما عاشته ورأته، وتتساءل: "لماذا أشعر أنا بالحنين إلى عالمٍ لم أره ولم أعرفه؟".

على الرغم من وضوح تلك اللحظة وقوّتها الإنسانية والسينمائية، وكونها النقطة المركزية لتصالح المخرجة/ البطلة مع عالمها، إلّا أنها تغمض عينيها، وتستمر في عيش إحساس الـ"نوستالجيا" كمحرّك لفيلمها. لكن، ما يزلزل هذا كلّه بشكل حقيقي، يكمن في قيام الثورة، في النهاية الدرامية لـ"جاي الزمان"، كأنها المرّة الأولى لدينا حمزة التي تمتلك فيها "قصّتها" الخاصة، وتتداوى/ تتحرّر قليلاً من أثر الأب، والحنين إلى عالمه.




ثاني تلك الأفلام "هدية من الماضي" (2015) لكوثر يونس. هو، على الأغلب، أنجح فيلم وثائقي مصري جماهيريًا، في الأعوام الأخيرة، إذْ استمر عرضه في صالة سينما "زاوية" شهرين متتاليين، مع "عروض مكتملة" أحيانًا كثيرة. الفيلم مختلف عن الأفلام المصرية الوثائقية المعتادة، وأكثر طموحًا منها. تصوّره يونس كلّه بكاميرات خفية، مستعرضة رحلة مع أبيها للبحث عن حبيبة سابقة عرفها في أوروبا منذ نحو 30 عامًا، قبل أن يتركها عائدًا إلى مصر.

تحاول كوثر يونس، في عيد ميلاد والدها، تقديم "هدية" له، فتجعله يقابل السيدة/ الحبيبة. العلاقة بين الأب والابنة أساس العمل، منذ بدء التحضير للرحلة في القاهرة، و"الشدّ والجذب" الحاصلين لتحقيق السفر أو لعدم تحقيقه، وصولاً إلى أوروبا ويوميات ما يحدث. من خلال ذلك كلّه، هناك حالة حقيقية من التواؤم والتقارب بينهما، يلتقطها الفيلم.

ثالث الأفلام لمحمد رشاد، بعنوان "النسور الصغيرة" (2017)، الذي عرض تجاريًا، قبل أسابيع قليلة، في صالة سينما "زاوية" أيضًا. يبدأ الفيلم من الثورة، ومن تساؤل يطرحه المخرج/ البطل على نفسه: "لماذا لا يملك والده، العامل البسيط في أحد المصانع في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، التاريخ الثوري ـ النضالي نفسه الذي يمتلكه آباء أصدقائه في ميدان التحرير؟".

يبدأ "النسور الصغيرة" من هذه النقطة، ويبحث محمد رشاد عن "الحكاية" التي يملكها والده، قبل أن يطرح سؤالين آخرين: "هل علاقة أصدقائه، تحديدًا أبناء مناضلي تلك الفترة القديمة، الذين التقوا حينها في مجموعة تسمّى "النسور الصغيرة"، "قويّة" بآبائهم، ويشعرون بتصالحٍ حقيقي معهم؟ وهل الآباء أنفسهم يشعرون بالفخر إزاء كلّ ما حدث، ولم يورّثوا الأبناء ثِقْل ما مرّوا به من تجارب؟".

يتحرّك الفيلم بتلك الأسئلة. بغض النظر عن قدرته السينمائية في التعبير عنها أو لا، فإن جوهر الأمور بدأ من فكرة "الثورة"، وانتهى عند محاولة "التصالح". على عكس "جاي الزمان" لدينا حمزة، فإن الثورة لم تكن الحل، بل السبب الذي أفضى إلى كلّ شيء.

اللافت للانتباه أن المخرج بسام مرتضى، الذي يظهر مع والده محمود مرتضى كشخصيّتين رئيسيتين في "النسور الصغيرة"، يعمل حاليًا على فيلمه الوثائقي الطويل الأول "أبو زعبل 89"، الفائز بـ"جائزة التطوير" في الدورة الأولى (22 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2017) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، الذي يتناول فيه مرحلة حبس والده مع عدد من مناضلي اليسار المصري في سجن "أبو زعبل" عام 1989، بعد تضامنهم مع اعتصام عمالي كبير. يحاول بسام مرتضى البحث في أثر تلك الفترة، على المستويين العام والشخصي، لأبطال الحكاية أنفسهم، ومن بينهم والده، ليخلق تكاملاً في بعض أجزائه مع "النسور الصغيرة"، وينضمّ إلى الأفلام الوثائقية، المرتكزة على العلاقة بالأب، والخارجة بأثر غير مباشر من "ثورة 25 يناير".
المساهمون