اقتصاد مصاب بـ "فيروس سي"

09 نوفمبر 2015
الفقر يسبب الفيروس في مصر(فرنس برس)
+ الخط -
يحتل "فيروس سي"، مساحة واسعة في خريطة الأمراض المنتشرة في مصر. وتقدر نسب الإصابة به بـ 12% من السكان، وهو ينتشر خصوصاً في مناطق الدلتا وجنوب مصر. عالمياً، يتراوح عدد المرضى بـ "فيروس سي" ما بين 130 إلى 150 مليون شخص يتركز معظمهم في إفريقيا وشرق آسيا. اقتصادياً يعد علاج "فيروس سي" من العلاجات المكلفة، لذا فمرضى البلدان الفقيرة يسيرون في رحلة الألم وصولاً إلى الموت، في ظل تراجع برامج الرعاية الصحية وتوجه الدول نحو خصخصة المنشآت الصحية.

ارتفاع التكاليف

مصر ليست استثناء، فرغم إقرار الدستور بضرورة رفع مخصصات الصحة إلا أن هذا الأمر مازال طي النسيان. تتعاظم مشكلة الفيروس في ظل ارتفاع تكلفة العلاج، وحسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية فإن النظام العلاجي بعقار الإنترفيرون الممتد المفعول والريبافيرين يكلف نحو ألفي دولار.
يعتبر الإهمال الطبي في مصر أحد أدوات انتشار الفيروس عبر العدوى، كذلك تلعب عوامل انخفاض الدخل وارتفاع تكلفة الكشف والتحليل دوراً في إهمال الفقراء مسألة الكشف عن الفيروس.
لم يلق هذا الوضع البائس الاهتمام الكافي من الدولة نظراً لافتقادها آليات التخطيط لمواجهة الأزمات ومنها الأمراض والمخاطر البيئية، لا بل وظفت ارتفاع عدد المرضى سياسياً، حيث وجدت الدعاية الجهنمية أداة لاستغلال أحلامهم في العلاج. فقد خرج عبد العاطي والذي يحمل رتبة لواء في الجيش، معلناً عن علاج التهاب الكبد والإيدز معاً. أحدث الإعلان في فبراير/شباط 2013 ردود أفعال متباينة ما بين التصدي العلمي الرصين ومواجهة الخزعبلات، وبين التصديق المطلق لهذا الإعلان من منطلق الثقة بالجيش. مع انفضاح كذب الدعاية التي أطلقها مخترع جهاز العلاج الذي عرف إعلامياً باسم "الكفتة"، وجدت الدولة نفسها في المواجهة مره أخرى مع أزمة انتشار الفيروس، خاصة أنه تقدم بطلبات العلاج أكثر من مليون مصري.
ومع التوجه السائد الذي يهمل الإنتاج ويعتمد على الاستيراد، طرحت أجهزة الدولة علاج المرضى بجدول زمني وبعقارات مستوردة. وفعلياً تم الاتفاق خلال العام الماضي مع إحدى الشركات المنتجة لعلاج سوفالدي لاستيراد 225 ألف عبوة من العقار. لكن هذه الخطة تعطلت بدورها نظراً لارتباطها بمدى قدرة الدولة على توفير السيولة المالية المطلوبة.

أخيراً، أعلنت مصلحة الجمارك حجز 20 ألف عبوة من إجمالي 30 ألف عبوة من عقار سوفالدي والذي يستخدم لعلاج "فيروس سي"، ولم يتم الإفراج سوى عن 10 آلاف عبوة بعد تدبير البنك الأهلي نحو 2.7 مليون دولار. مجمل ما تم من خطوات لمواجهة الأزمة يرتبط أساساً بالتوجهات الاقتصادية للدولة والمصالح التي تسيطر على تلك التوجهات.
منذ بداية التسعينات، برز توجه لتصفية القطاعات الإنتاجية، وقد وظفت بعض الإخفاقات التي منيت بها شركات الأدوية لتكون أداة لتبرير التصفية، ووقف وراء هذا التوجه العام نحو الخصخصة مجموعة من الاقتصاديين الذين تبنوا تنفيذ برامج التكيف الهيكلي وإحلال القطاع الخاص بديلاً عن القطاع العام. وساند هذا التوجه بشدة مافيا الاستيراد وشركات القطاع الخاص التي سوف تحتكر سوق الأدوية لتحقق مليارات الدولارات.
لكن هذا التوجه كان بطيئاً نسبياً في قطاع الأدوية مقارنة ببعض القطاعات الإنتاجية الأخرى، كانت هناك رؤية مفادها أن مسألة العلاج مرتبطة بالأمن القومي، إلا أن هذه الرؤية سقطت صريعة مصالح رجال الأعمال الذين سيطروا على الحكم بشكل سافر فتمت تصفية بعض شركات الأدوية أو بيعها للقطاع الخاص.
الوضع الاقتصادي المأزوم للدولة وكذلك للمرضى يدفع لاعتماد سياسات اقتصادية تعالج الأزمة، لذا طالبت العديد من الأصوات الرجوع لسياسة التصنيع بدلاً من الاستيراد وهذا وإن تحقق سوف يحل الأزمة بلا شك. إن توجيه الاعتماد المالي للإنتاج بدلاً من الاستيراد، سوف يوفر علاجات "فيروس سي" وسيجبر الشركات الخاصة على تخفيض أسعار الأدوية التي تنتجها، وفي جانب آخر ستوفر الدولة النقد الأجنبي، وتفتح الأدوية خطوط الإنتاج لاستيعاب عمالة جديدة بها.

(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة القاهرة)

اقرأ أيضاً:رغم التقشف مصر تغرق في الديون
المساهمون