ومع مرور الوقت، تتكشّف حلقة جديدة أكثر خطورة من التي سبقتها. آخرها أن عملية التجسس الإلكتروني حصلت بمعرفة الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، بل بإشرافه. واليوم ثمة معلومات إضافية بأن الاختراق شمل بريد مرشحين ديمقراطيين عدة لمجلس النواب. وبقدر ما ينكشف من معطيات؛ باتت القناعة تتعمق أن "هذه العملية لم تحصل بالصدفة، بل عن عمد من جانب دولة لتحقيق غرض محدد. ولا ينبغي أن يخالج أحدًا الشك بذلك". كما قال مدير الوكالة الوطنية الأمنية، الأدميرال مايكل روجرز.
كلام روجرز يتطابق مع تحليل وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي أيه"، التي حرّكت مطلب فتح تحقيق بالقضية، ليس من جانب الكونغرس فقط؛ بل ثمة من يطالب بلجنة وطنية خاصة مشكّلة من الحزبين، على غرار تلك التي جرى تشكيلها للتحقيق في هجمات سبتمبر 2001، إذ إن تفاعل القضية رفع من درجة الارتياب بعلاقات الرئيس المنتخب بموسكو، خصوصاً المالية منها.
الأمر ذاته عزز أيضًا الشكوك باختيار الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، لرئيس شركة أكسون، راكس تيلرسون، لمنصب وزير الخارجية. فعلاقته القريبة من بوتين أثارت علامات استفهام، من البداية، لدى أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، التي لا بدّ له أن يحظى بتصويت أكثريتها لصالحه، قبل أن يطرح تعيينه على المجلس، ومشكلته الرئيسيّة الآن هي أن عدداً من الجمهوريين "غير مرتاحين" لاختياره.
حتى الآن اللجنة مقسومة تقريبًا، ولو بقي الفريق المعارض على موقفه وانضم إليه جمهوري واحد؛ لأصبح تعيين تيلرسون في مهب الريح. لكن المشكلة الأخرى للوزير هي أن استمرار تدفق المعلومات عن مدى حجم عملية الاختراق، التي شملت الجمهوريين أيضًا من دون أن يجري تزويد "ويكيليكس" بالمعلومات عنهم، من شأنه زيادة الضغوط للتضحية به. الاعتقاد الراجح أن تيلرسون، حتى اللحظة، يقف على تخوم دائرة الخطر وليس داخلها. وقد يجري تمريره بتنازل ترامب عن تعيين جون بولتون، كنائب لوزير الخارجية، فالاعتراض كبير جدًا في مجلس الشيوخ على تسليمه هذا المنصب.
في كل الأحوال، فإن صياغة السياسة الخارجية ورسم توجهاتها باقية في البيت الأبيض كما كانت أيام الرئيس الأميركي باراك أوباما. كل المؤشرات تدل على أن الثنائي، الجنرال مايك فلين، بالتعاون مع المستشار ستيف بانون، هو الذي سيتولى هذه المهمة. مؤشر يثير كثيراً من القلق لدى كثير من الأوساط والنخب المعنية في هذا المجال في واشنطن.
غير أن موضوع حقيبة الخارجية ليس العقبة الأخطر التي ستواجه الرئيس المنتخب. هناك تحديات أكبر لرئاسته. بعضها هو تسبب بخلقها. وبعضها الآخر نتج عن ملابسات انتخابه. فهو قادم لتولي مهام الرئاسة في ظل علاقات مأزومة مع ثلاثي هام ونافذ: المؤسسة الاستخباراتية، الإعلام، والكونغرس.
فمع الأولى، تعمّد فتح معركة مبكرة من خلال التشكيك بقدراتها وموضوعية منتجها المعلوماتي والتحليلي. وكشفها قصة الدور الروسي في الانتخابات، حمله على مخاصمتها وازدراء عملها. كما أنه رفض قراءة تقاريرها اليومية التي تصله كرئيس منتخب، إلا في بعض الأحيان.
أما الثانية، فمعركته معها، منذ أن دخل معترك الرئاسة، فهو لا يطيق وسائل الإعلام، ولم يعقد مؤتمرًا صحافيًا خلافًا لعادة بقية الرؤساء، منذ يوليو/تموز الماضي، ولا يتقبل السؤال بسهولة ولا الدخول في التفاصيل، وقد كان من المفترض أن يعقد أول مؤتمر صحافي، اليوم، ليقدم خلاله خطته لفصل الرئاسة عن عالم أعماله. لكنه صرف النظر عنه مع تأجيله إلى مطلع العام المقبل.
الثالثة، وهي مؤسسة الكونغرس، فبدايات ترامب معها غير سلسة، ما جعل العلاقة مبنية على فقدان الثقة والريبة. حتى مع الجمهوريين، أو على الأقل مع فريق من كبار رموزهم. وجاء الموضوع الروسي ليوسّع الفجوة بينهما. وقد تتسع إذا تعثر عدد من تعييناته في نيل موافقة مجلس الشيوخ عليها.
بذلك، تبدو مقدّمات دخول ترامب إلى البيت الأبيض غير خالية من الألغام التي تنفجر من البداية، أو تبقى في وضع يهدد بانفجارها لاحقًا. الأزمة تبدو كامنة في التناقض بين حاجته إلى مؤسسات الوضع القائم، والتي استعان برجالاتها لتركيب إدارته، وبين رغبته الجامحة في الاستعلاء عليها. رئاسة فريدة بقدر ما كان انتخابها محيرًا.