اغتصاب الحروب .. جدل الغريزة والسياسة

21 مايو 2014

ضحية اغتصاب في الكونغو تخفي وجهها (أكتوبر 2007 أ.ف.ب)

+ الخط -

على الرغم من معاهدات ومواثيق عديدة، وضعتها الأمم المتحدة، وهيئات عديدة، تم إنشاؤها من أجل وقاية النساء والفتيات، وحمايتهن من الاغتصاب في أثناء النزاعات والحروب، فإن واقع الحال لا يزال يدل على وقوع العبء الأكبر عليهن، في النزاعات التي اتسعت دائرتها، منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا ما تؤكده الأخبار التي توثق وقائع اغتصاب نساء ضحايا في الحروب والنزاعات المسلحة؛ في سورية ودارفور وجنوب السودان والصومال، مثلاً، وأخيرا اختطاف فتيات في نيجيريا، ما يشير إلى أنه على اختلاف مناطق النزاعات وتنوع دوافعها، إلا أنها، جميعها، يشترك في آثارها وتبعاتها على النساء. وحسب إحصائيات دولية عديدة، فإن النسبة الكبرى من ضحايا النزاعات المسلحة الراهنة من المدنيين، إذ حوالي 70% من ضحايا هذه النزاعات في العالم لم يكونوا من المقاتلين، وغالبيتهم من النساء والأطفال، إضافة إلى تحملهن العبء الأكبر من أعمال العنف والنزوح والتهجير، كما أن العنف الممارس ضد النساء، بدرجة كبيرة، لا يعد من عوارض الحرب، بقدر ما هو عمل مقصود لذاته، لتحقيق أغراض متنوعة.
تنامي حالات العنف والاغتصاب الممنهج ضد النساء، في مناطق النزاعات المسلحة والحروب، دعا الجماعات النسوية لدراسة أثر الحرب على النساء، وكيفية تحولهن إلى رموز للهزيمة، بتحول أجسادهن إلى مواقع للمعارك والغزو، حين يتعرضن للهجوم والاغتصاب الذي هو، في حد ذاته، برأي باحثين في النسوية، فعل إرهابي، يستخدم لتنظيم علاقات القوة بين الجنسين، ويعمل على تحقيق السيطرة على النساء، بل يعتبر مؤسسة إرهابية تحقق أهدافها السياسية، المتمثلة في تبعية النساء بتخويفهن، بحيث يضع الرجال هذه القواعد الترهيبية، ليقدموا أنفسهم في دور الحماية.
يرى النسويون أن الاغتصاب مؤسسة ذكورية، تهدف إلى تعزيز مكتسبات الرجال، وتأكيد هيمنتهم التي خولهم لها النظام البطريركي فقط، لمجرد انتمائهم إلى الذكورة البيولوجية. وتبعاً لذلك، اعتبرت هيئات حقوق الإنسان أن من الضروري توزيع المسؤولية على كل الرجال تجاه قيام بعضهم بفعل الاغتصاب، كونهم مستفيدين منه، باعتباره مؤسسة ذكورية، وعليه، هم مطالبون بمناهضة الاغتصاب.

 
على الرغم من ذلك، لا يمكن القول إن للاغتصاب وظائف متشابهة في جميع الأوقات والمجتمعات، بل تعتمد هذه الوظائف على سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، ما يحتم مناقشة كل حالة على حدة. فقد اختلفت الرؤية وتفسيرات اغتصاب النساء في أثناء الحروب، حيث أظهرت دراسات أن الاغتصاب قد لا يكون نتيجة دافع جنسي في المقام الأول، بقدر ما هو عمل عدواني بحت. بمعنى آخر، لا يعد الاغتصاب، فقط، تعبيراً للعدوانية على الحياة الجنسية للنساء؛ بل هو تعبير جنسي عن العدوان، فهو تعبير عن الغضب والعنف والهيمنة على المرأة، بغرض الإذلال والإخضاع.
وبحسب تحليل روث سيفرت للاغتصاب في أثناء الحروب، ثمة تفسيرات عديدة للظاهرة؛ منها أنه من قواعد الحرب غير المكتوبة، والتي تعطي المنتصر الحق في ممارسة العنف ضد نساء العدو، والتاريخ يؤكد على هذه الحقيقة. وفي تفسير ثانٍ، إن اغتصاب نساء العدو، إضافة إلى ما يسببه من إذلال للنساء، يحمل رسالة مبطنة لرجال العدو، لإشعارهم بالحرج حيال العجز عن حماية نسائهم، وإثبات التفوق الذكوري عليهم. وقد ظهرت هذه الوظيفة التواصلية للاغتصاب، بوضوح، إبان الحرب اليوغسلافية الأخيرة؛ إذ كان يتم إرجاع النساء، الحوامل جراء عمليات الاغتصاب الجماعي، عبر خطوط العدو إمعانا في إذلالهن.
وأثبتت دراسات أن المغتصبِين في الحروب يميلون إلى سلب شخصيات ضحاياهم، فهم بالكاد ينظرون إلى المغتصبة كامرأة، بل تمثل لهم فرداً من العدو، بدليل أن المغتصبين لا يستطيعون وصف ضحاياهم، بعد ذلك، فالضحية تمثل النساء ككل، وليس شخصية محددة، ما يفسر عدم شعور المغتصبين بالذنب من فعل جريمة الاغتصاب، أو حتى القدرة على التعاطف، أو الشفقة على الضحية. وهذا ما أطلق عليه النسويون مصطلح (التشييء) الذي يقصد به، في أبسط معانيه، النظر إلى شخص ما كـ(شيء)، لا كإنسان له حقوق.
ويتمثل التشييء الجنسي بتصورٍ للآخر يستدعي معاملته كـ(شيء) جنسي، وتشييء المرأة جنسياً يتضمن إلغاء إنسانيتها إلى مستوى (الشيء)، باستخدامها وسيلة لتحقيق غاية معينة، لا لاعتباراتٍ ذات صلة بها كإنسان، ما يسلبها كرامتها الإنسانية، أي لجوهر كونها إنساناً. 
كما يرتبط تفسير الاغتصاب في أثناء الحروب والنزاعات بمفهوم الذكورة، بصورة عامة، لاسيما في مجال الخدمة العسكرية، إذ إن أحد الأسباب الرئيسة لانضمام الرجال إلى مهنة العسكرية اعتبارها رمزاً للرجولة، فهناك اقتران بين الهوية الذكورية والعسكرية، إذ تجتمع فيهما مشاعر إنكار وقمع الوداعة والحساسية ومشاعر القلق، ما يتطلب دوماً من الأفراد ضرورة كبت تلك الصفات، للتماهي مع الهوية الذكورية والخصائص العسكرية.
لذا، من الضروري، عند النظر إلى مسألة اغتصاب النساء في أثناء الحروب، تخطي مسألة اضطهاد النساء إلى دراسة المترتبات النفسية والعاطفية، الناجمة عن الجندر المحارب، والاهتمام بهذا الجانب، ليس بهدف تقديم الأعذار، أو تبرير سلوكيات الذكورة العنيفة، بقدر ما هو محاولة للوصول إلى فهم أعمق لكيفية تجسيد الصدمات التاريخية في الحرب، وللشكل الجندري الشديد الذي ترتديه هذه التجسيدات.
ذلك أن أكثر الملامح المهمة حيال تفسير دوافع الاغتصاب في الحروب، عبر الاستجابة لصدماتها، بحسب الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر، هو الضعف الإنساني، فــ"حين تفكك الخسارة الردود السياسية على النزاعات، كثيراً ما تصير الأخيرة ردود فعل مركبة، ناجمة عن آثار الجراح المفقدة للاستقرار"؛ الأمر الذي يستدعي البحث عن مقارباتٍ تفسيريةٍ جديدةٍ، عند النظر والبحث في تاريخ النزاعات تتضمن الناحية الشعورية، وبحيث لا يجب تحديد البحث فقط في مفهوم الخسارة.


 

دلالات
317F8031-69AB-4175-8C77-441E72B45E66
وداد محمود سعيد

أكاديمية سودانية، دكتوراه في علم الاجتماع، مهتمة بقضايا التنمية الاجتماعية ودراسات المرأة. عملت مع منظمات أجنبية وطوعية ناشطة في السودان، باحثة متعاونة في مركز الأبحاث الواعدة في البحوث الاجتماعية ودراسات المرأة في جامعة الأميرة نورة بالسعودية.