31 أكتوبر 2024
اضطرابات إيران خارج التوقعات
تصادفت اضطرابات إيران مع صدور التقديرات التي تصدرها كبرى مراكز الدراسات والبحوث "سترانفور" و"راند" وغيرهما في الشرق والغرب، والتي غالباً ما تستشرف أحداث السنة المقبلة، ويسترشد صانعو القرارات بهذه التقييمات في صنع سياساتهم الدولية.
تلاحظ أغلب تلك التقييمات صعود إيران بشكل شاقولي في نفوذها الإقليمي، وتوسع دائرة سيطرتها في المنطقة، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا والصين، ودائما بالاعتماد على معطياتٍ ومؤشراتٍ يقع أغلبها في إطار الصناعات العسكرية، أو منظومات القمع التي تمتلكها تلك الدول.
وحتى بعد بداية الاضطرابات، تحاجج أغلب التحليلات بأن نظام إيران قوي، ولا يمكن للثورة أن تمر، وهذه حجّة غير صحيحة، إذ تحصل جميع الثورات في التاريخ في لحظة ضعف مفصلية، لا تدركها إلا الشعوب التي تتعاطى مع النظام يوميا، وتعرف نقاط ضعفه ومفاصلها، وهي من يصدر تقييم ما إذا كانت الثورة مناسبة الآن أم لا. لدى الشعوب قرون استشعار أقوى من كل تقييمات الأكاديميين وأجهزة المخابرات، ولديها القدرة على الاختيار بين السيئ والأسوأ، ولم يحصل أن استطاع نظام في التاريخ قمع الثورة، بل غالباً ما تولّت قوى خارجية هذه المهمة.
وصل النظام الإيراني، وفق تقديرات شعبه، إلى مرحلةٍ من الفساد، أضعفت قدراته، وأفسدت
قدرته على التماسك. ولا تزال لدى هذا النظام قدرة على البطش، لكن هناك أجزاء في ماكينة قوته أصبحت رخوة وضعيفة. والتهديدات التي يطلقها النظام توحي بذلك، تهديد الرئيس حسن روحاني بأن النظام سيلجأ للشعب للدفاع عنه كناية عن إدراكه أن النظام غير قادر على حماية نفسه.
في استشراف الثورات، وتفسير احتمالات وقوعها، تتعطل المؤشرات والمعطيات والمفاتيح، وسواها من أدوات التحليل، ولا تستطيع قراءة التحولات العميقة في المجتمعات. وفي الغالب، تلتزم الدراسات الأكاديمية، أو ذات الصبغة البحثية، معطيات رسمية، وخصوصا في المجتمعات التي تحكمها سلطاتٌ منغلقة. وقد تكون هذه المعطيات حقيقية، ولكن لا قيمة حقيقية لها على صعيد العدالة وتوزيع الموارد، ولا تفسّر طبيعة العلاقة بين السلطة والشعب ومدى الرضى الشعبي عن تلك السلطات. وقد حصل هذا الأمر في إيران وسورية، ويحصل في روسيا والصين، والأصح أن هذه المجتمعات على حافّة الثورة دائما.
ويبقى هذا النوع من الدراسات حذراً. في البداية يرفض أن يسمّي ما يجري بأنه ثورة، ثم يثير الشكوك بإمكانية استمرارها، وأخيراً يشكّك بقدرة القيادات الجديدة على إدارة البلاد، وذلك كله في إطار الحذر، وبذريعة أن من شأن التسرّع في إطلاق الأحكام أن يفقد الجهة المعنية مصداقيتها. وهذا ما يحرم هذه المؤسسات من قراءة الديناميكيات التي تتوالد، وتغذّي كل مراحل الثورة، وهو ما يجعل عمل هذه المؤسسات أكثر فائدةً على مستوى كتابة تأريخ الأحداث، أكثر من تحليلها واستشراف تطوراتها.
وثمّة بدعة جديدة ركزت عليها أغلب التحليلات التي رافقت الأحداث الإيرانية، عبر رد الثورة إلى أسباب اقتصادية، في محاولة للتأشير إلى أن هذه الاضطرابات أقل من ثورة، ولن تصل إلى مستوى الثورة ما دامت مطالبها اقتصادية؟ والسؤال هنا: أي ثورة حصلت في
التاريخ ولم يكن سببها ومحرّكها ودافعها اقتصاديا، من الثورة الفرنسية حتى الثورات الملونة والربيع العربي؟ ذلك أن الحاجة والجوع هما ما يجلب الذل والاستغلال ويعمق التسلط والاستبداد، لأنها تقلّل خيارات المجتمعات، وتجعلها خاضعةً لمستغليها. وبالتالي، يصبح الاقتصاد الواجهة والمبرّر لقيام الثورات، وحتى الأهداف التي ترفعها الثورات، بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة، كالديمقراطية والشفافية والعدالة، كلها لها علاقة بتوزيع الموارد وضمان وصولها إلى أكبر شريحة من المواطنين.
ويذهب بعضهم، إما حفاظاً على رصانته، أو لتوليف سياقٍ رغبوي ضد الثورة، إلى أن الاحتجاجات لا تزال ضعيفة، ولا تشكل تهديدا لنظامٍ متجذّر منذ أربعين عاماً، ومخترق للمجتمع الإيراني من جميع خواصره. والحق أنه من الطبيعي أن تبدأ الاحتجاجات ضعيفةً في النظم الاستبدادية، بسبب عدم وجود رأي مخالف، وأحزاب ومنابر تعترض القرارات السلطوية، كما أن الجماهير لا تزال في مرحلة المراقبة والاختبار، سواء للحركة الصاعدة أو لسلوك النظام تجاهها. وغالبا يحصل الأمر بالتراكم، حيث تلتحق، كل يوم أو أسبوع جديد، كتل وفئات أخرى، إلى أن يشمل الحراك جزءاً كبيراً يمثل غالبية أطياف المجتمع.
يبقى أن العنصر الفاعل في هذا النمط من الثورات هو المتظاهر المندفع ذاتياً، وهذا المتظاهر لا تعنيه كثيراً تقييمات الخارج، ولا رؤاه وتصوراته للحدث، حيث يكون منخرطاً ضمن دائرة طموحاتٍ وتصوراتٍ بسيطة، وتكون لديه هموم من نوع مواجهة المخاطر المحتملة، والتخطيط لساحة التظاهر والطرق المؤدية إليها. وهذا المتظاهر المندفع ذاتيا هو عماد الأحداث وركيزتها، سيركب أتباع التيارات الداخلية ووكلاء الخارج الثورة، لكن هؤلاء لا يعوّل عليهم بالأصل، هم لا يغامرون، وهم ليسوا وقود الثورة، بل غالباً يجهزون أنفسهم للاستفادة من الثورة، قد يتأذّى هؤلاء ويعتقلون، لكن ذلك يحصل مصادفةً، وليس لكونهم أطرافا وعناوين في الثورة.
وحتى بعد بداية الاضطرابات، تحاجج أغلب التحليلات بأن نظام إيران قوي، ولا يمكن للثورة أن تمر، وهذه حجّة غير صحيحة، إذ تحصل جميع الثورات في التاريخ في لحظة ضعف مفصلية، لا تدركها إلا الشعوب التي تتعاطى مع النظام يوميا، وتعرف نقاط ضعفه ومفاصلها، وهي من يصدر تقييم ما إذا كانت الثورة مناسبة الآن أم لا. لدى الشعوب قرون استشعار أقوى من كل تقييمات الأكاديميين وأجهزة المخابرات، ولديها القدرة على الاختيار بين السيئ والأسوأ، ولم يحصل أن استطاع نظام في التاريخ قمع الثورة، بل غالباً ما تولّت قوى خارجية هذه المهمة.
وصل النظام الإيراني، وفق تقديرات شعبه، إلى مرحلةٍ من الفساد، أضعفت قدراته، وأفسدت
في استشراف الثورات، وتفسير احتمالات وقوعها، تتعطل المؤشرات والمعطيات والمفاتيح، وسواها من أدوات التحليل، ولا تستطيع قراءة التحولات العميقة في المجتمعات. وفي الغالب، تلتزم الدراسات الأكاديمية، أو ذات الصبغة البحثية، معطيات رسمية، وخصوصا في المجتمعات التي تحكمها سلطاتٌ منغلقة. وقد تكون هذه المعطيات حقيقية، ولكن لا قيمة حقيقية لها على صعيد العدالة وتوزيع الموارد، ولا تفسّر طبيعة العلاقة بين السلطة والشعب ومدى الرضى الشعبي عن تلك السلطات. وقد حصل هذا الأمر في إيران وسورية، ويحصل في روسيا والصين، والأصح أن هذه المجتمعات على حافّة الثورة دائما.
ويبقى هذا النوع من الدراسات حذراً. في البداية يرفض أن يسمّي ما يجري بأنه ثورة، ثم يثير الشكوك بإمكانية استمرارها، وأخيراً يشكّك بقدرة القيادات الجديدة على إدارة البلاد، وذلك كله في إطار الحذر، وبذريعة أن من شأن التسرّع في إطلاق الأحكام أن يفقد الجهة المعنية مصداقيتها. وهذا ما يحرم هذه المؤسسات من قراءة الديناميكيات التي تتوالد، وتغذّي كل مراحل الثورة، وهو ما يجعل عمل هذه المؤسسات أكثر فائدةً على مستوى كتابة تأريخ الأحداث، أكثر من تحليلها واستشراف تطوراتها.
وثمّة بدعة جديدة ركزت عليها أغلب التحليلات التي رافقت الأحداث الإيرانية، عبر رد الثورة إلى أسباب اقتصادية، في محاولة للتأشير إلى أن هذه الاضطرابات أقل من ثورة، ولن تصل إلى مستوى الثورة ما دامت مطالبها اقتصادية؟ والسؤال هنا: أي ثورة حصلت في
ويذهب بعضهم، إما حفاظاً على رصانته، أو لتوليف سياقٍ رغبوي ضد الثورة، إلى أن الاحتجاجات لا تزال ضعيفة، ولا تشكل تهديدا لنظامٍ متجذّر منذ أربعين عاماً، ومخترق للمجتمع الإيراني من جميع خواصره. والحق أنه من الطبيعي أن تبدأ الاحتجاجات ضعيفةً في النظم الاستبدادية، بسبب عدم وجود رأي مخالف، وأحزاب ومنابر تعترض القرارات السلطوية، كما أن الجماهير لا تزال في مرحلة المراقبة والاختبار، سواء للحركة الصاعدة أو لسلوك النظام تجاهها. وغالبا يحصل الأمر بالتراكم، حيث تلتحق، كل يوم أو أسبوع جديد، كتل وفئات أخرى، إلى أن يشمل الحراك جزءاً كبيراً يمثل غالبية أطياف المجتمع.
يبقى أن العنصر الفاعل في هذا النمط من الثورات هو المتظاهر المندفع ذاتياً، وهذا المتظاهر لا تعنيه كثيراً تقييمات الخارج، ولا رؤاه وتصوراته للحدث، حيث يكون منخرطاً ضمن دائرة طموحاتٍ وتصوراتٍ بسيطة، وتكون لديه هموم من نوع مواجهة المخاطر المحتملة، والتخطيط لساحة التظاهر والطرق المؤدية إليها. وهذا المتظاهر المندفع ذاتيا هو عماد الأحداث وركيزتها، سيركب أتباع التيارات الداخلية ووكلاء الخارج الثورة، لكن هؤلاء لا يعوّل عليهم بالأصل، هم لا يغامرون، وهم ليسوا وقود الثورة، بل غالباً يجهزون أنفسهم للاستفادة من الثورة، قد يتأذّى هؤلاء ويعتقلون، لكن ذلك يحصل مصادفةً، وليس لكونهم أطرافا وعناوين في الثورة.