اشتباك السينما بالأدب

15 ابريل 2018
(من فيلم "أحلام" لـ أكيرا كوروساوا)
+ الخط -

كثيراً ما يُظنّ بأنّ العلاقة بين الأدب والسّينما طريقٌ باتّجاهٍ واحد، ينطلق دائماً من الأدب (النصّ السّرديّ القصصي أو الروائيّ) لينتهي فيلمًا على الشّاشة.

لكن ثمّة علاقة أخرى، غير مطروقة كثيرًا، تتعلّق بتأثير السّينما علىالكتابة، سواء من حيث تأثير مواضيع الأفلام عليها، أو لجهة التقنيّات السينمائيّة الموظّفة للتّعامل مع موضوع الكتابة، ومع الصُّور التي تولّدها، وتَحوّل الاثنين (الموضوع والتقنيّات) إلى مادّة مرجعيّة مؤثّرة في النصّ الأدبيّ، وفاعلةٍ فيه.

في الجانب التقنيّ، كثيراً ما يستفاد من التقنيّات السّينمائيّة في إنتاج كتابة مُتعلّقة بالشّخصيات أو الموضوعات، تقترب منها/ تركّز عليها، أو تبتعد عنها/ تضعها داخل محيط، بسلاسة حركة عدسة الكاميرا المُسمّاة Zoom in وZoom out؛ أو مستفيدة من تلك الحركة المسحيّة للكاميرا من محور ثابت والمسمّاة Pan، والتي تُمكّن شخصيّة من استكشاف محيطها بسرعة وكثافة، أو تمكّن الكاتب من مسح المحيط المكانيّ للقارئ؛ كما يُمكن أن يُستفاد من إظهار شخصيّات أو أحداث بشكل حادّ أمام خلفيّة مشوشّة، أو العكس (Focus – Out of focus).

بالنّسبة لي كمشتغلٍ في الأدب، كل تقنيّات ما سأسمّيه "الكتابة المُتحرّكة" هذه تعلّمتها من السينما التي أضافت لي الكثير، مثلما أضافت الفنون الأخرى. مثلاً: تعلّمت من الرّقص المعاصر كيفيّة التحكّم بالفراغ والزّمن وحركة الشّخصيات والأحداث داخلهما، وتعلّمت من الفنّ التّشكيليّ تعدّد المنظورات والتّظليل وعلاقة اللّون بالملمس، بينما علّمتني الموسيقى الانسياب. كلّ هذه الإضافات تُثري الكتابة، وترفدها بإمكانيات جماليّة وتقنيّة لا يمكن أن تتحقّق عند كاتب يستنكف أو يترفّع عن متابعة الفنون.

لجهة الموضوع، وجدت نفسي استلهم الكثير من نصوصي وقصصي من مرجعيّات سينمائيّة، وهو أمر موجودٌ عند كتّاب عديدين يجدون في السّينما (وغيرها من الفنون) مادة خصبة لإثارة الخيال الشعريّ أو السرديّ. مثلًا: الفصل الأوّل من كتابي "أرى المعنى" (الآداب، 2012) يحمل اسم: "القيامة الآن"، وهو اسم الفيلم المعروف لفرانسيس فورد كوبولا Apocalypse Now الذي أنتج عام 1979، والمقتبس بدوره عن قصّة جوزيف كونراد "قلب الظلام" (1899).

داخل هذا الفصل تظهر وتتحرّك شخصيات وأشياء من الفيلم، مثل "النهر" و"القارب" و"الثور" الذي يُذبح بساطور، فيما تخيّم الأجواء الكابوسيّة للفيلم على الكتابة وتغلّفها. في فصول أخرى من نفس الكتاب، ثمة إحالات وإشارات وجدل مع أفلام، ومع أحداثٍ فيها، ومع مُخرجين، مثل المخرج ستانلي كوبريك وفيلمه "عيونٌ مغلقةٌ على اتّساعها" Eyes Wide Shut الذي أنتج عام 1999، أو المخرج الياباني أكيرا كوروساوا وفيلمه "أحلام" (Dreams, 1990)، أو المخرج الألماني فيرنر هيرتزوغ وفيلمه "فيتزكارالدو" (Fizcarraldo, 1982).

نموذج آخر من استلهام الأفلام نجدها في كتابي "مُقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل" (العين، 2014)، وفيه تستحضر إحدى القصص فيلم المخرج الإيطاليّ الشّهير فيديريكو فيلّليني "2/1 8" (1963)، وتُروى القصّة بلسان شخصين: فيلّليني نفسه، ومُشاهد مدمنٌ لأفلامه، يقوم فيلّليني بحشره داخل أحد مشاهد الفيلم. أما قصة "غبار النجوم"، من كتابي "الفوضى الرّتيبة للوجود" (الفارابي، 2010) فتستحضر مقطعاً كاملًا مقتبسًا عن حوار في فيلم (The Matrix,1999) للأخوين واتشاوسكي، مدمجاً داخل بنية القصّة، يشكّل "الإجابة الثانية" من مجمل إجابات خمس يقدّمها النصّ على الحدث الذي يُعالجه.

هذه نماذج بسيطة عن الكيفية التي أثّرت فيها الأفلام على كتابتي الخاصّة، وأصبحت فيها المرجعيّات والإحالات الفيلميّة، أو مشاهد الأفلام وشخصيّاتها، جزءًا مهمًّا من بنية النصّ الأدبي واشتغالاته، وبابًا يقوم النص الأدبي من خلاله بإدخال المتلقّي إلى عوالم أوسع، ومساحات جديدة، في ذات الوقت الذي يتمدّد فيه الفيلم خارج شكله الأصلي، ليكتسب حضورًا، ومعاني، وأبعادًا، وزوايا رؤية جديدة، بوساطة النص الأدبي، وبالاشتباك معه.

العلاقة المعروفة أكثر بين الأدب والسّينما هي حين يكون الأوّل مصدراً للثاني، ويتنوّع فيها الاقتباس من الحرفيّ نسبيًّا -مثل فيلم "العطر: قصّة قاتل" (2006) المقتبس عن رواية بنفس الاسم لباتريك سوسكيند (1985)- إلى الاستلهام المفتوح، ومثاله فيلم "القيامة الآن" المذكور سابقًا، والذي يُعالج موضوع الغزو الأميركيّ لفيتنام والفظائع المترتّبة عليه، بخلاف الكتاب الذي يعالج فظائع الاستعمار الأوروبيّ لأفريقيا، وإن حافظ الفيلم على عناصر أساسيّة في الكتاب (القارب، النهر، الغابة، التسلّط، الشخصيّتين الرئيسيّتين).

لن أضيف كثيراً على هذه العلاقة التي كتب فيها كثيرون، سوى ملاحظة متعلّقة بمشهد صناعة الأفلام في الأردن، وبعض البلدان العربيّة الأخرى. فمن متابعتي لكثير من الأفلام القصيرة والطّويلة المحليّة، وبعيدًا عن ملاحظاتي التقنيّة والفنيّة على أغلبها، يبرز عامل شبه جامع لكل الأفلام غير الوثائقية، يتمثّل بالضعف الشّديد للقصّة، وهو ضعف ناتج -برأيي- عن ضعف الإمكانات الكتابيّة لصنّاع الأفلام، فيغيب العمق (الذي يضيفه الأدب عادةً) عن الرّؤية والمعالجة وزوايا النّظر المتعلّقة بالموضوع مدار الاشتغال، فتخرج القصة سطحيّة، أو ساذجة، انعكاسًا لكتابة تحمل نفس الصفات. في غياب كُتّاب أفلام يغيب عنهم العمق (الذي يمكّنهم منه الأدب)، يصبح مهمًا أن يتوجّه صنّاع الأفلام إلى النّصوص الأدبيّة المتمكّنة كمصدر أساسيّ لأفلامهم.

التّفاعل (والتّعاون) بين مسارات الفنّ المختلفة معروفٌ وهامّ، ويثري المشاركين فيه. مثلاً: في عالم الرّوايات المصوّرة، كثيرًا ما يتطلّب الأمر تعاونًا بين كاتب ورسّام، ليخرج العمل إلى النور مكتملًا، ولعلّ المثال الأهمّ في هذا السّياق هو الكاتب ألان موور، الذي لا يرسم، بل يستعين برسّامين مثل ديف جيبنز ليَنتُج الكتاب العظيم: Watchmen، أو ديفيد لويد ليَنتُج كتاب: V for Vendetta، وكلاهما بالمناسبة أُنتجا كأفلام أيضًا. التّعاون، والتّفاعل، والاشتباك، والاشتغال على مشاريع مشتركة، تثري المشاركين بها، وتجعل المشروع المشترك أكثر عمقاً وتمكّناً، وهو ما ينطبق على ضرورة أن تتوسّع مرجعيّات الأديب لتتضمّن لا الأدب فقط، بل الفنون، والفلسفة، والعلوم؛ وإلا سقط في السطحيّة والمعالجات السّاذجة، وأشكال الكتابة التي أُشبعت وصارت غير قادرة على الاشتباك مع عالمنا اليوم، ومستجدّاته، ومعارفه.


* كاتب من الأردن

دلالات
المساهمون