اسكتلندا التي صفعتنا

21 سبتمبر 2014
اسكتلندا قالت لا للانفصال (جيف ج. ميتشل/Getty)
+ الخط -
خرجت أنا وأصدقائي في العام 1995 من دور السينما وكلّ منّا يحلم ببطولة كتلك التي شاهدناها في الفارس الاسكتلندي ويليام والاس. أثار فيلم Brave Heart فينا نزعة التمرّد إلى حدٍّ بعيد. التمرّد على السلطة الأم المتجسّدة بالدولة وضرائبها التي كانت في تصاعد مستمرّ حينها مع مرحلة إعمار لبنان. التمرّد على النبلاء ممّن أفرزتهم الحرب الأهلية أو ما عُرِفَ حينها بـ"أثرياء الحرب". التمرّد على السلطة الدينية والمنزلية، تلك التي تطرح أمامك الـ"لا" في وجه نزعتك التحرّرية. أتقن العبقري ميل جيبسون دوره. إلى حدّ لامس الأفق الأقصى من نزعتنا إلى التحرّر. حدٌّ دفع رفيقي الفلسطيني في حينها إلى وضع صورة جيبسون ملفوفاً بالعلم الفلسطيني و تحته كلمة "Freedom"، أي "حريّة".

أثار الفيلم اهتماماً مدويّاً في بيروت. الجميع تكلم عنه، كلّ من عايش تلك المرحلة دخل في نقاشات معمّقة حول تاريخ اسكتلندا وبريطانيا. "المعمّقة" تلك لا تتجاوز مرحلة المقارنة بمشاكلنا الداخلية، متجنّبة كلّ التواريخ الممكنة والدلائل والخصوصيات التاريخية والجغرافية بين اسكتلندا ومحيطها.

شيخ الحارة الذي اعتلى منبر المسجد يوم الجمعة، يقول "أبناؤنا الذين يتبجّحون بالغرب وحضارته شاهدوا بأمّ العين كيف قامت بريطانيا، المتآمرة على الإسلام وفلسطين، بقمع ثورة "الأخّ" والاس بالقوة، وشرّدت أبناء اسكتلندا".

الرفيق الدكتور في الحزب الشيوعي حينها راح يتحدّث في أحد اجتماعات الحزب عن الثورة الزراعية ومقدّراتها وسطوة الملكية على حقوق الفلاحين. أخٌ آخر من القوميين العرب المتشدّدين والمنحازين إلى مبدأ توحيد الأمّة العربية في سوق مشترك أيّد أيضاً فكرة "والاس". إذ شبّه، خلال أحد المهرجانات الحزبية في ذكرى "ثورة يوليو 52"، موقف والاس بموقف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من ملكة بريطانيا، فوقف مخاطباً: "باسم الأمّة العربية، والاس وجنوده كتبوا ذات يوم كما كتب أبناء بور سعيد إلى الملكة البريطانية في العام 1956. شتموها كما شتمها". تابع الأخ القومي مقارنته على وقع نشيد "أحلِف بسماها وبِترَابها".

عاد الحديث عن اسكتلندا أوائل العام الحالي. أُعلِنَ حينها موعد استفتاء على الانفصال عن بريطانيا. محطة فضائية، تَصِفُ نفسها بأنّها عروبية فلسطينية الهوى، إستقدمت عشرات المحلّلين لمناقشة الخبر. أكّدوا نزعة الاسكتلنديين إلى الانفصال. جنرال متقاعد وصف رغبة الاسكتلنديين بأنّها "تلك الثورة الحقّ في تاريخ بريطانيا" وبأنّها "صفعة على وجه الملكة". استعمل حينها كلّ المفردات المدويّة المُستَمَدّة من تاريخنا اللغوي النضالي تحديداً.

حان موعد الاستفتاء. عشرات المحطات نقلت عملية الاقتراع. لا ضبّاط أمن ولا عسكر حول مراكز الاستفتاء. سار الاسكتلنديون بهدوء شديد إلى عمليتهم الديمقراطية. لم يرفع مؤيّدو الانفصال صور والاس ولم يتظاهروا. معارضو الانفصال لم يرفعوا صورة الملكة ولم يكتبوا تحتها: "الملكة إلى الأبد أو نحرق البلد". إعلام المملكة المتحّدة لم يستعمل "المؤامرة الكونية" ولا حتّى "الإمبريالية الأميركية". اختار الشعب الاسكتلندي البقاء تحت مظلّة المملكة بإرادته وبأغلبية الأصوات.

أحبّ الاسكتلنديون والاس. خلّدوا ذكراه. مضوا إلى مستقبلهم مدركين مصلحة بلدهم. لا شيخ اتّهمهم بخيانة تاريخهم. لا حزب أطلق عناصر استخباراته لترصد أسماء من صوّتوا لصالح عدم الانفصال عن المملكة. حتّى الحزب الشيوعي الاسكتلندي أيّد البقاء تحت حكم الملكة.

الفلاحون هم أفضل حالاً هناك من أساتذة الفلسفة في العالم العربي. بقيت المملكة موحّدة دون أن يحلف أحد بـ"سماها ولا بِترابها". نامت اسكتلندا وصحونا نحن من سيناريو فيلم "برايف هارت". اليوم فقط انتهى مفعول فيلم ميل جيبسون. اليوم صحا دعاة التبجّح بمعرفة مصالح دولة كاسكتلندا، وعرفوا أنّ التاريخ وحدَهُ لا يؤسّس المستقبل. مصلحة المواطن والدولة هي من تفعل. فهل كان على اسكتلندا العودة إلى والاس. كما نعود في العراق وسورية ولبنان 1400 سنة إلى الوراء، متخبّطين بين بيعة "السقيفة" و"كربلاء"؟

المساهمون