استمع إلى الملخص
- قدمت أدوارًا جريئة ومعبرة في السينما تناولت قضايا اجتماعية وسياسية، وتعدت شهرتها الساحة الجزائرية إلى العالمية بمشاركتها في أعمال فرنسية وأوروبية.
- تكريمها بوسام الاستحقاق والتميز في يونيو 2024 يعد تتويجًا لمسيرتها الفنية الغنية، مؤكدًا على تأثيرها القوي في الجمهور والنقاد عالميًا.
تشتبك الممثلة الجزائرية بيونة (1952) مع أدوارها السينمائية بعمق. هذا تعكسه أساساً في تحوّلاتها الفيزيائية والجسدية، فيصبح الدور بالنسبة إليها لا شخصية عابرة، ولا فقرة في فيلم خيالي، بل حقيقة ظاهرة وواقعية، تمحو بها الكلمات الجاهزة التي يُطلقها المُشاهد المتذمّر عادة، بقوله إنّ ما تقوم به مجرّد تمثيل، أو تجعله يكرهها لأنّها شريرة في دور ما، تستحق عليه القتل والسحق والانتقام؛ أو يُقدّرها لأنّه أحبّ شخصيّتها ورآها تتوحّد معها. يلعنها مرّات، لأنّها أقنعته بأنّها بائعة هوى.
قِسْ على ذلك في شخصيات وأدوار أخرى، استطاعت بلوغ هذا المستوى من المسؤولية الفنية، انطلاقاً من جدّيتها وحبّها لمهنتها واحترامها الجمهور الجزائري، وكلّ من يحبّ الأفلام ويُشاهدها في العالم.
اشتهرت باية بوزار (اسمها الحقيقي) بتسمية بيونة، تصغير باية، ككنية محبّة أطلقته عليها أسرتها. هذا الاسم السينمائي يظهر مجدّداً، ولو جزئياً، بعد تكريم أعضاء "جمعية قدماء الثقافة والإعلام" لها (20 يونيو/حزيران 2024)، بمنحها وسام الاستحقاق والتميّز، نظير ما قدّمته للسينما والفن عامة، وتكريماً لمسار أكثر من نصف قرن من العمل.
بدايتها التمثيلية حاصلةٌ في دور فاطمة، في المسلسل الجزائري الأشهر "الحريق" (1974) لمصطفى بديع، انطلاقاً من نصّ أدبي للكاتب محمد ديب. قبله، نشطت بيونة في الطرب مغنية "مالوف". تحيي أعراساً وحفلات. لكنّ مشاركتها في "الحريق" غيّرت بوصلتها جدّياً، فبدأ التمثيل بالنسبة إليها يتحوّل من شيءٍ ثانوي إلى عامل أساسي في حياتها. لذا، فإنّ مشاركتها في السينما قوية، مع بدايات مهمة، منذ "ليلى والأخريات" (1977) لسيّد علي مازيف.
بعدها، دخلت بيونة التلفزيون والسينما من أوسع الأبواب. مع الوقت، أصبحت نجمة التلفزيون الأولى في الجزائر، بفضل أدوار كوميدية أدّتها. حتى أنّها تحوّلت إلى عامل نجاح لأي مسلسل أو "سيت كوم" أو سلسلة تشارك فيها. لكنْ، رغم تلك الأضواء التلفزيونية، تبقى الأفلام عشقها الأول، لأنّ السينما فنّ جعلها تتحرّر من كلّ القيود الجسدية والنفسية، فلم تضع حدوداً مسبقة لأيّ دور تؤدّيه، أكان للفيلم محمول ودلالة سياسيان، أو بأدوار جريئة في أفلامٍ عدّة.
شكّلت الشراكة الفنية بينها ممثلةً، ونذير مخناش، مخرجاً سينمائياً جزائرياً مغترباً، قفزة نوعية وهائلة في مساريهما، كما في المدوّنة السينمائية الجزائرية. فمخناش لعب دوراً محورياً في هذه الشراكة، إذْ أحسن إدارتها سينمائياً في ثلاثيّته التي صنعت فارقاً، وأسّست لسينما مختلفة، بدءاً من "حريم السيدة عصمان" (2000)، ثم "فيفا لالجيري" (2004) و"دليس بالوما" (2007). أفلامٌ مُلغّمة برسائل سياسية قاسية، نقلت أوجاع العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر.
في الأول، عكست بيونة أوجاع المرأة التي فَقَدت زوجها في تلك المرحلة الدموية، ما جعلها تعيش وضعاً نفسياً صعباً أثّر على ابنتها. ثم أدّت دور مدام ألجريا، التي سُجنت ثلاثة أعوام، ومع خروجها، أصبحت تحلّ مشاكل شخصيات مهمة عدّة، بدءاً من العلاقات التي تملكها. عكست هذه الشخصية الفساد السياسي الذي بلغته الجزائر في عهد الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة (أنتج الفيلم في عهده). امتلأ العمل بتلك الرسائل، إلى حدّ أنّه تمّ منعه في الجزائر بطريقة غير مباشرة.
جرأة بيونة لم تنتهِ في الثلاثية، بل تعدّتها إلى أفلامٍ أخرى، كالجزائري الممنوع من العرض أيضاً "في عمري ما زلت أختبأ لأدخّن" (2016) لريحانة، أحد الأفلام الجريئة جداً، الذي عكس معاناة المرأة الجزائرية في العشرية السوداء. في حوار معها، قالت ريحانة إنّ ممثلات عديدات رفضن التمثيل فيه، خوفاً على مصيرهن في بلدهنّ، ما دفعها إلى تصويره في اليونان.
لم تكن الساحتان السينمائية والتلفزيونية الجزائريتان فضاءً وحيداً انعكس فيه المجهود الفتي لبيونة، إذْ امتدّ هذا الإشعاع إلى أعمال في دول أوروبية عدّة، خاصة فرنسا. لذا، فإنّ حضورها بارزٌ في المشهد الفني الفرنسي: "عين النساء" (2011) للفرنسي الروماني رادو ميهالينو، المشارك في الدورة الـ64 (11 ـ 22 مايو/أيار 2011) لمهرجان "كانّ"؛ و"الشابة لويزة" (2013) للفرنسية فرنسواز شاربيا، إضافة إلى عشرات الأعمال التلفزيونية والسينمائية والمسرحية.
تنعكس قوّة بيونة في تلاعبها وتمكّنها من التمثيل، إذْ يُمكنها تأدية أي شخصية بمقدرة. أي أنها لا تلزم نفسها بشكل تمثيلي واحد، لهذا تتلاعب بالأدوار الكوميدية والدرامية والتراجيدية، وحتى أدوار شخصيات الشرّ والرعب بكل سهولة. تتنقل من حالةٍ نفسية إلى أخرى من دون تعقيد، وهذا جعلها ممثلة كبيرة، تتأقلم مع أي دور ـ شخصية من دون بذل مجهود ظاهر يُمكن أنْ يذهب بمصداقيتها. بالتالي، بإمكانها أنْ ترسم وتشتبك مع أدوارها بكل حرفية، وأنْ تتواصل بها مع جمهورها. وهذا ربما يعود إلى الخلفية الفنية التي تمتلكها، إذْ تنقّلت بين الغناء والعزف وتسيير الفرق الفنية، والاحتكاك المتواصل بالتلفزيون والسينما والمسرح، ما جعلها تمتلك أدوات كلّ فن وإمكاناته، إضافة الى احتكاكها بممثلين محليين وأجانب بشكل مستمر.
هذه معطيات ساهمت في تراكم خبراتها، وتكوين شخصيتها الفنية، لتكون بتلك المقدرة الفنية التي جعلتها فنانة من الصف الأول.