يعيد النداء الذي وجهته الشرطة البريطانية، أمس الثلاثاء، "إلى كلّ من لديه معلومات تقديمها" حول اغتيال رسام الكاريكاتور الفلسطيني، ناجي العلي، قبل ثلاثين عاماً في لندن، لإعادة التحقيق بالاغتيال، فتْح السجال حول رواية قتله واتهام الموساد بالجريمة. ولا يزال الكاتب البريطاني، غوردون توماس، في مؤلَّفه "القصة السرية للموساد من عام 1951 وحتى يومنا"، مرجعاً أساسياً لرواية اغتيال العلي، في فصل وضعه تحت عنوان "رسم كاريكاتوري أكثر من اللازم". يقول المؤلف إن الاتصالات بين "منظمة التحرير الفلسطينية" والولايات المتحدة الأميركية قديمة، وتعود إلى سنة 1973. وعن تفاصيل بدء هذه الاتصالات، يكشف وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في مذكراته، بأن الأمر يعود إلى الفترة التي أعقبت اغتيال السفير الأميركي في الخرطوم، كليو نويل، عام 1973، على يد فدائيي منظمة "أيلول الأسود". وبعد تلك الحادثة، عقد لقاء بين الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، ونائب رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، فيرنون والترز. ونجم عن اللقاء "معاهدة عدم اعتداء". ويقول كيسنجر إن الهجمات ضد الأميركيين توقفت أو على الأقل من قبل المقربين من "منظمة التحرير الفلسطينية".
حاولت تل أبيب إقناع الأميركيين بوقف التعاون مع سلامة، الذي كان يمنحهم فرصة معرفة كل ما يدور في الشرق الأوسط، بل وأصبح ضرورياً لـ"وكالة الاستخبارات الأميركية" (سي آي إيه). وحين قامت إسرائيل باغتياله مطلع عام 1979، لم يَرُقِ الأمر للأميركيين الذين ظلت علاقاتهم مع الإسرائيليين باردة خلال فترة طويلة بسبب اغتيال سلامة، بحسب ما ذكر الكاتب. ويضيف أن السفير الأميركي في بيروت آنذاك، جون غونتر دين، كان حزيناً على مقتله. وقال "أعرف أنه (سلامة) في أكثر من مناسبة، وبعيداً عن كل إشهار، كان مفيداً بطريقة استثنائية، بل ذهب إلى حدّ المساهمة، بنشاط، في أمن المواطنين والرسميين الأميركيين. أعتبر مقتله خسارة".
يرسم المؤلف أجواء أعقبت استشهاد علي حسن سلامة، وكيف أن بعض الدوائر الباريسية، خصوصاً الدائرتين رقم 18 و20، كانت تعج بمؤيدين للمقاومة الفلسطينيين وأعضاء فيها. ويتابع أنه من هذه المناطق تم تدبير هجمات على عدة مؤسسات يهودية في باريس، مثل بعض مطاعم ومتاجر وأماكن دينية. ويتحدث المؤلف عن ردود الموساد التي "كانت ردوداً شرسة" عبر تنظيم عمليات تسلل لتصفية الكثير من الشخصيات الفلسطينية في فرنسا وغيرها من الدول. ومن إحدى الروايات عن عمليات الموساد، تلك المتعلقة بتجنيد إسرائيل للفلسطيني إسماعيل صوان. وورد في الكتاب أن استخبارات دولة الاحتلال ساعدته على الدراسة وأرسلته في بعثات إلى العديد من العواصم الغربية وإلى بيروت وطرابلس للتدرب على السلاح، ثم إلى تونس حيث كانت تقيم القيادة الفلسطينية بعد خروج "منظمة التحرير" من بيروت عام 1982. وبعد ذلك، أراد الموساد أن يذهب صوان إلى باريس، وهذا ما تم بالفعل، إنما على نفقة منظمة التحرير، تحت حجة أن صوان ينوي تعلم اللغة الفرنسية. لكن مهمته تمثلت برصد تحركات القيادي السابق في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - فرع العمليات الخارجية"، الفنزويلي إليتش راميريز سانشيز، المعروف باسم كارلوس.
وبعد ذلك، طلب الموساد من صوان التوجه إلى بريطانيا للمساعدة على تنفيذ عملية تهدف إلى اغتيال القائد الجديد لما يعرف بـ"القوة 17" الفلسطينية، عبد الرحيم مصطفى، الذي كان قد اتخذ من لندن مقراً له. مهمة العميل صوان كانت تتمثل في استدراج القائد الفلسطيني خارج بريطانيا، ومن الأفضل إلى الشرق الأوسط، حيث يستطيع العملاء الإسرائيليون تصفيته. يتعرف العميل على القائد الفلسطيني ويستطيع خلق علاقة ودية معه، ثم يتواعدان على الالتقاء في "الهايد بارك" في لندن، وهناك يقوم عميل إسرائيلي آخر، يدعى بشار سمارة، بتصويره، وفق ما ورد في الكتاب.
استمرت الاتصالات بين العميل والقائد الفلسطيني ما يقرب العام. في هذه الأثناء يتعرف صوان على بريطانية ويعبر عن رغبته في الاقتران بها. لكنه لم يكن يتوفر على شاهد زواج. يتوجه إلى مقر "منظمة التحرير الفلسطينية" في لندن، وهناك يلتقي القائد مصطفى، وهو يمسك بنسخ عديدة من مجلة "القبس" الكويتية التي كانت تطبع في لندن. وكان كل عدد يتضمن صورة كاريكاتورية للقائد ياسر عرفات. كانت الصحيفة التي تمولها العائلة الحاكمة في الكويت تناصب "منظمة التحرير" العداء، بحسب ما يذكر مؤلف الكتاب. الصور كانت من ريشة الرسام الفلسطيني ناجي العلي، أهم الرسامين الكاريكاتوريين العرب، وكان يقيم في لندن، وكان يبدو معارضاً لعرفات. صرخ القائد الفلسطيني أمام الجاسوس الإسرائيلي إسماعيل صوان، قائلاً إن الرسام يستحق الموت، وإنه يجب تلقين أسياده الكويتيين درساً، وفق ما ورد في كتاب "القصة السرية للموساد من عام 1951 وحتى يومنا".
هكذا، قرر العودة إلى العاصمة البريطانية في الرابع من أغسطس/آب 1987. وفي المطار تم توقيفه من قبل رجال الأمن البريطانيين، واتهم باغتيال ناجي العلي. وحين صرّح بعمالته للإسرائيليين، سخر المحققون البريطانيون منه، بحسب ما ورد في كتاب غوردون توماس.
ويخلص المؤلف إلى أنه "تمت التضحية بالجاسوس الفلسطيني كي تحصل إسرائيل على أفضال حكومة (رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت) تاتشر". ويقول الكاتب إن الأسلحة التي تم العثور عليها في بيته كانت كفيلة بنسف جهوده لإقناع المحققين بأنه عمل لمصلحة الإسرائيليين.
صحيح أن إيقاف العميل، صوان، كان خسارة لدولة الاحتلال، لأنه قام بأعمال مضرة بالقضية الفلسطينية لمصلحة إسرائيل، لكن التضحية به، بهذه الطريقة، كانت وسيلة من الإسرائيليين للتعبير عن إرادتهم بالتعاون مع السلطات البريطانية. كما أن العثور على الأسلحة في بيت العميل صوان يمكنها أن تقود إلى تخريب العلاقات البريطانية الفلسطينية، وإظهار عرفات وهو يؤدي دوراً مزدوجاً في علاقاته مع البريطانيين. على أية حال، بإمكان الموساد العثور على صوان آخر، يستميله بوعود جميلة وكاذبة، وفق ما ورد في كتاب توماس.