تحوّل تاريخ 25 مايو/أيار الماضي، يوم مقتل المواطن الأميركي جورج فلويد، على يد 4 ضباط شرطة في مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأميركية، إلى محطة فاصلة، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في أماكن عدة حول العالم، خصوصاً لدى دول الاستعمار السابقة، ومنها بلجيكا. فقد عبّر الملك فيليب، أمس الثلاثاء، للمرة الأولى في تاريخ بلجيكا عن "بالغ أسفه للجروح" التي تسببت بها فترة الاستعمار البلجيكي لجمهورية الكونغو الديمقراطية (1885 1960)، في سابقة تاريخية. وجاء قرار الملك الذي اعتلى العرش في 2013 في رسالة وجّهها إلى رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فليكس تشيسكيدي في مناسبة الذكرى الستين لاستقلال البلاد، وفي ذكرى بطلها الوطني باتريس لومومبا، الذي تحوّل إلى أيقونة لدى الناشطين المناهضين للاستعمار والذين يطالبون القوى الاستعمارية السابقة بتحمّل مسؤولية ماضيها. وذكر الملك في الرسالة التي وُزّعت على الصحافة، عن حقبة سلفه الملك ليوبولد الثاني، التي وصفها المؤرخون بالأكثر دموية، عندما كان يدير الكونغو وثرواتها وكأنها ملكيته الخاصة من بروكسل.
ارتُكبت أعمال عنف وحشية لا تزال تثقل ذاكرتنا الجماعية
وكتب الملك فيليب "ارتُكبت أعمال عنف وحشية لا تزال تثقل ذاكرتنا الجماعية"، مضيفاً أن "فترة الاستعمار سبّبت معاناة وإذلالاً. وأودّ أن أعبّر عن بالغ أسفي لجروح الماضي التي يُستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الحاضر في مجتمعاتنا"، مشدّداً على أنه سيستمر في "محاربة كافة أشكال العنصرية". وشجّع "النقاش الذي بدأه برلماننا كي يمكن لذاكرتنا أن ترتاح بشكل نهائي"، في إشارة إلى لجنة برلمانية مكلفة درس ذاكرة الاستعمار مع خبراء بلجيكيين وأفارقة، سيتم تشكيلها بعد الاتفاق بين الكتل السياسية. مع العلم أنه في عامي 2000 و2001 درست لجنة تحقيق برلمانية ظروف اغتيال رئيس وزراء الكونغو الديمقراطية، باتريس لومومبا، في 17 يناير/كانون الثاني 1961، وخلصت إلى تحمّل "بعض الوزراء والشخصيات البلجيكية مسؤولية أخلاقية". وعن رسالة الملك، أعلنت رئيسة الوزراء البلجيكية صوفي ويلميس، أنه "دقت ساعة الحقيقة لبلجيكا"، معتبرة أن "أي عمل لإحياء الذاكرة والحقيقة يبدأ أولا بالاعتراف بمعاناة الآخر". كما أشادت صحيفة "لو سوار" بمبادرة الملك، وكتبت "وأخيراً هذه الخطوة التي كانت ضرورية والتي تعظم شأن الملك وبلجيكا". ومع أن الملك لم يعتذر رسمياً عن الاستعمار، لعدم إفساح المجال للكونغو للمطالبة بتعويضات مادية، إلا أن رسالته تبقى أقرب إلى اعتذار ضمني.
وسبق لبلجيكا أن شهدت تظاهرات متضامنة مع حركة "حياة السود مهمة"، وتمّ تخريب تماثيل الملك ليوبولد الثاني في بروكسل وأنفير، وإلقاء طلاء أحمر عليها، يرمز إلى دماء الضحايا الكونغوليين. كما قررت جامعات وبلديات إزالة تماثيل وتماثيل نصفية كما هو الحال في حديقة عامة في غنت. وفي مذكرة جمعت أكثر من 80 ألف توقيع طالب تجمّع "فلنصحح التاريخ" بإزالة كافة التماثيل التي تمجد الملك الراحل في بروكسل، خصوصاً تلك التي نصبت قبالة القصر الملكي. ويتهم نص المذكرة الملك ليوبولد الثاني بكونه "سفاحاً" وبـ"قتل أكثر من 10 ملايين كونغولي". ولجأ الملك المذكور من خلال شركات امتياز إلى نظام السخرة لاستخراج الكاوتشوك في الكونغو. ووثقت تجاوزات وصلت إلى قطع أيدي العمال الذين لم يكن إنتاجهم كافياً. ووفقاً لمعظم المؤرخين لم تتوقف أعمال العنف بعد 1908 وظل نظام الفصل بين البيض والسود على غرار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مطبقاً لعقود. وذكر الباحث في جامعة سان لوي في بروكسل، رومان لاندميترز، لوكالة "فرانس برس"، أنه "أبرزنا المنافع المزعومة للحضارة التي استقدمها البلجيكيون، لكننا نعلم أن الطرقات والمستشفيات والمدارس تم تشييدها لخدمة نظام استخراج الثروات وإنتاجها لصالح الجهة المستعمرة". ويعود التاريخ البلجيكي في الكونغو الديمقراطية إلى مؤتمر برلين الألماني في عام 1885 وحضرته أبرز القوى الاستعمارية العالمية آنذاك، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وعليه "حصل" الملك ليوبولد الثاني على حصته الاستعمارية، ووضعت الكونغو تحت سيطرته. وفي عام 1906 تحولت الكونغو إلى مستعمرة بلجيكية. وبعد الحرب العالمية الثانية (1939 1945) تنازلت ألمانيا النازية التي خسرت الحرب عن رواندا وبوروندي لمصلحة بلجيكا، التي وضعت يدها عليهما حتى عام 1962.
اعتذرت بلجيكا العام الماضي على خطفها أطفالاً من الكونغو
وفي العام الماضي اعتذرت بروكسل على لسان رئيس الوزراء البلجيكي السابق، رئيس المجلس الأوروبي حالياً، شارل ميشال، عن الآثار السلبية التي نتجت عن هذا الاستعمار، وعن اختطاف آلاف الأطفال الذين وُلدوا لأزواج من أعراق مختلفة في هذه المستعمرات الثلاث السابقة: بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. وكان يتم نقل الأطفال الذين ولدوا لمستوطنين بلجيكيين ونساء من البلدان الثلاثة إلى بلجيكا بالقوة، وأوكلت رعايتهم إلى معاهد ومؤسسات كاثوليكية. ويعتقد أن عدد هؤلاء الأطفال يبلغ حوالي 20 ألف طفل، وقد رفض معظم الآباء الاعتراف بأبوة أطفالهم. ووُلد هؤلاء الأطفال في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ونُقلوا إلى بلجيكا في الفترة من عام 1959 حتى استقلال كل المستعمرات الثلاث. ولم يحصل بعض هؤلاء الأطفال على الجنسية البلجيكية، وعاشوا في بلجيكا من دون جنسية. وقال ميشال في حينه في كلمة ألقاها في البرلمان البلجيكي، إن بلاده انتهكت حقوق الإنسان لهؤلاء الأطفال، حين اعتبرتهم بمثابة تهديد لنظامها الاستعماري. واعتبر أن بلاده قد جردتهم من هويتهم وشوهت سمعتهم وفرقتهم عن أشقائهم. وأضاف: "أتعهد بأن تمثل هذه اللحظة خطوة نحو التوعية والاعتراف بهذا الجزء من تاريخنا الوطني". وأكد رئيس الوزراء أن العديد من هؤلاء الأطفال ساهموا في جعل بلجيكا "مجتمعاً أكثر انفتاحاً وتسامحاً". كما أعرب عن تعاطف بلجيكا مع "الأمهات الأفريقيات اللاتي اختطف أطفالهن". وكانت الكنيسة الكاثوليكية اعتذرت، قبل عامين، عن دورها في هذه الفضيحة. وقد دعا أعضاء البرلمان البلجيكي، العام الماضي، الحكومة إلى مساعدة الأطفال المتضررين في العثور على آبائهم. وكذلك منحهم الجنسية البلجيكية. وتقول منظمات محلية تعنى بحقوق هؤلاء الأطفال إن العديد منهم "يعانون بشدة" نتيجة هذه التجربة المريرة.