استخدام محمود درويش

24 ديسمبر 2015

محمود درويش: يحبونني ميتاً

+ الخط -
ما الذي جعلني أتذكّر الكاتب الفلسطيني، هشام نفّاع، فور سماعي خبر إقالة أمانة مؤسسة محمود درويش في رام الله؟ ما علاقة الكاتب اليساري، هشام نفّاع، الذي يعيش في حيفا، ويكتب مقالاً أسبوعياً في صحيفة الاتحاد بخبر إقالة الأمانة العامة للمؤسسة؟ كان هشام أحد الذين عارضوا دفن محمود درويش في رام الله، وأحد الذين نظّموا جنازة رمزية للراحل الكبير في قريته البروة. لم أكن أعرف، ولم أعرف بالضبط، سبب معارضته، ورفاقه، دفن درويش في رام الله؟ طننتها رغبة طبيعية منهم في البقاء قرب عملاق الكلام والصمت، وربما كانت معارضتهم ذات مدلول سياسي وطني، للتأكيد على عودة محمود درويش الطبيعية والحقيقية إلى أرضه، على اعتبار أن عودته إلى رام الله كانت منقوصة، كما كان نفسه يقول.
هل كان يجب أن يدفن محمود درويش في حديقة بيت أمه في قرية الجديدة، قبر عادي وصغير محاط بورد قليل، وكراسي قش، وزوار خجولين يطرقون باب البيت بهدوء قبل الدخول، أليس هذا ما كان يفضّله ويحبه؟ ألم يكن في حياته متحفظاً وعازفاً عن التوفر الاجتماعي السهل والانكشاف؟ والأخطر ألم يكن محمود درويش حريصاً على ألا يستخدم في حياته لصالح نهج معيّن، أو فكرة معينة، أو حسابات فصائلية وشخصية وسياسية معينة؟ أسوأ ما في الموت أنه لا يتيح للميت الدفاع عن نفسه واتخاذ موقف. درويش الآن في مكان فخم، يجلس فخماً وأنيقاً، لكنه ما زال ميتاً، لا يقدر على طرد شخص فضولي سطحي وفارغ، يستعرض دموعه وحزنه على رحيله، أمام حبيته البلهاء التي تفتح فمها دهشة من أناقة حزن حبيبها، وعمق عاطفته، وما زال عاجزاً عن طرد المدعوين على أمسية شعرية لأشخاص انتحلوا صفة شعراء، وقدموا إلى بيته يختالون ويمرحون، ويصرخون على المنبر، ولا بأس طبعاً بالجملة المستعادة والمسروقة آلاف المرات: (أشعر برهبةٍ، لأني أقف في حضرة محمود درويش)، ثم تزول الرهبة فوراً، ويشرع منتحل الشعر في الزعيق، ويضج الجمهور بالتصفيق. ولكن درويش وحده تماما يمعن في موت مضاعف.
كانت إقالة أمانة مؤسسة محمود درويش خطوة سياسية لمعاقبة الأمين العام، ياسر عبد ربه، لأسباب بالتأكيد لا تهم القراء الذي يحبون محمود درويش، والمثقفين النزيهين والنظيفين الذين يهمهم فقط سمعة درويش وكرامته. هو خلاف سياسي بين سياسيين اثنين، تم فيه استخدام محمود درويش استخداماً غير لائق، لا بصورة الشاعر ولا بفلسطين التي غنّاها، ولا بالشعر الذي ارتفع به في آفاق جديدة، وصار قمره.
كم كان درويش ذكياً، حين كتب "يحبونني ميتاً". كان يعرف تماماً أن القتلة الثلاثة بالمرصاد. كان يراهم خلف الباب ويسمع خطواتهم، القارئ والقاتل والشاعر. ولكن، هل خان محمود درويش حدسه، حين تجاهل أو نسي قاتلاً رابعاً هو السياسي؟ أم أن القاتل في القصيدة هو نفسه السياسي؟
(يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا./ سمعتُ الخطى ذاتها. منذ عشرين عاماً تدقّ حائط الليل. تأتي/ ولا تفتح الباب. لكنها تدخل الآن. يخرج منها الثلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ./ ألا تشربون نبيذاً؟ سألتُ. قالوا. متى تطلقون الرصاص عليّ؟/ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وصفّوا الكؤوسَ/ وراحوا يغنّون للشعبِ. قلتُ: متى تبدأون اغتيالي؟ فقالوا: ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً كي تسير على الأرضِ./ قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء والأرض سوداء جداً./ أجبتُ: لأن ثلاثين بحراً تصبُّ بقلبي. فقالوا: لماذا تحبُّ النبيذَ الفرنسيّ؟ قلت: لأني جديرٌ بأجمل امرأة. كيف تطلب موتك؟/ أزرق مثل نجومٍ تسيل من السّقفِ – هل تطلبون المزيد من الخمر؟/ قالوا: سنشرب. قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين، أن تقتلوني رويداً رويداً لأكتب شعراً أخيراً لزوجة قلبي. ولكنهم يضحكون/ ولا يسرقون من البيت غير الكلام الذي سأقول لزوجةِ قلبي)
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.