استحقاقات تونس مسألة جزائرية أيضاً
التقيته عند الحلاق، في يوم قائظ من أيام عطلة الصيف الماضي، كنت أقضي بعضها في مسقط رأسي في إحدى مدن الجزائر الداخلية. بعد السلام، بادرت جاري القديم بسؤال عن الضمادة التي يضعها على عينه اليمنى. أجاب من غير استغراب، فأنا لم أره منذ أعوام: أصابني مرض في عيني، ولم يسعفني إلا الإخوة التونسيون. لم يمهلني صاحبي في الاستفسار عن الأمر، وأمطرني بسيل من الكلام، شرح لي الأوضاع المتردية في مستشفيات الجزائر، وكأني به وجد ضالته في تفريغ حمولة هم متراكم لديه. من عيادة إلى عيادة، ومن مدينة إلى أخرى، تنقّل صاحبنا ولم يظفر بموعد لعمليته الجراحية المستعجلة، فالمرض لا ينتظر، بحسب قوله.
واصل جاري القديم تشريح مؤامرة ألمت بالقطاع الصحي في الجزائر، وكيف أنه لجأ، وكثيرون من أمثاله، إلى تونس (الشقيقة، كما يصفها الجزائريون)، فإلى عياداتها العامرة، شد الرحال، ولولاها، بحسب قوله، لفقد البصر، لا قدّر الله.
بصر فقدته بالفعل المنظومة الصحية الجزائرية في السنوات الأخيرة، حيث تحولت المستشفيات العامة إلى مراقد لانتظار الموت، وتحول القطاع الخاص إلى مستغل لجيوب المرضى وذويهم. لم يكن الحال على هذا الوضع دائماً، فبين تونس والجزائر "ملح وخبز". يذكر الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، في مذكراته، أن وزير الصحة الجزائري بعد الاستقلال، الدكتور تيجاني هدام، أجرى له عملية دقيقة في الرقبة. وبعد نجاحها، قال له بورقيبة: أنت لست هداماً، أنت بناء، وأتمنى أن تغير اسمك. حتى الثمانينيات، كانت الجامعات الجزائرية تعج بالطلبة التونسيين، وفي مختلف التخصصات، ولا غرابة، فالجزائريون، أيضاً، وفي النصف الأول من القرن العشرين، كان جامع الزيتونة محجتهم، منه ينهلون دروس الفقه المالكي، وفيه يتعلمون أصول العلوم الدينية. كما كانت تونس ملاذ الوطنيين في أثناء ثورة التحرير، ومن إذاعتها، كان يصدح صوت الجزائرالحرة.
شهد الثامن من فبراير/ شباط 1958 ذروة التمازج بين الشعبين، حينها سُقيت أرض قرية ساقية سيدي يوسف الحدودية التونسية بالدمين، الجزائري والتونسي معاً. ارتكب الاستعمار الفرنسي مجزرة في حق الأبرياء من أبناء البلدين، ذنبهم الوحيد أنهم وقفوا ضد مشروعه التدميري الغاشم.
في الأوقات العصيبة، كما في الأوقات السعيدة، لم تفرق السياسة بين التونسي والجزائري، وجد السياسيون من مختلف الاتجاهات حاضنة في الجزائر. لجأ إليها رئيس الحكومة التونسية الأسبق، محمد مزالي، حين ضاق به ذرعاً الحبيب بورقيبة في بداية الثمانينيات. وفر إليها راشد الغنوشي عام 1991 هارباً من متابعة القمع البوليسي لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وسبقهما في العام 1971 أحمد نجيب الشابي، مؤسس الحزب التقدمي الديموقراطي، طلب اللجوء السياسي آنذاك، ودرس الحقوق في جامعة الجزائر.
تعود الذاكرة لتسترجع وقائع التاريخ أمام حاضر مفعم بالزخم والحركة والتفاعلات اليومية. يطغى الحاضر على الماضي، ولكن الماضي يبقى شاخصاً في الأذهان، فيه تتركز التجارب وتتمخض عنها الخلاصات. سألت الشيخ راشد الغنوشي عن مدى استفادة حركة النهضة من تجربة الانتخابات الجزائرية المتعثرة، في مطلع التسعينيات وما تلاها من أزمة سياسية وأمنية حادتين. وكانت حركة النهضة يومها تشهد ضغطاً سياسياً كبيراً من الأحزاب والأطراف السياسية المتباينة في تونس، بعد مقتل الناشط شكري بلعيد، والأزمة التي ألمت بحكومة حمادي الجبالي. قال الغنوشي بثقة: تجربة الجزائر مهمة جداً في تلافي الأخطاء والتعلم من التجارب التي نعمل على عدم الوقوع فيها. ربما كانت التجربة الجزائرية في الديمقراطية الموؤودة، إبان التسعينيات، درساً وعاه التونسيون. مرت سفينة تونس في السنوات الأربع الماضية بموج متلاطم من الخلافات السياسية الداخلية، والضغوط الخارجية ظاهرة وباطنة. لكن، استطاع التونسيون أن يصلوا بسفينتهم إلى مشارف موانئ آمنة، ونجاح تجربتهم نجاح للجزائر، وناس الشقيقة الكبرى، كما يصف أهل الخضراء جارتهم الجزائر، ينظرون إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية بعين الإعجاب.
إعجاب يتنوع باختلاف مشارب الناس، فمنهم المواطن البسيط الذي يريد تونس هادئة آمنة. لا تشرب من كأس مرة ذاقها الجزائريون، مواطن يجد في تونس موطناً جميلاً يقضي فيه عطلة الصيف أو الشتاء، فمليونا جزائري يتوجهون إلى تونس كل عام للسياحة والعلاج والاستثمار، ويشكلون مورداً اقتصادياً مهماً لتونس، أنقذ المواسم السياحية سنوات عز فيه السائح الأوروبي، وتمنع فيها عن المجيء إلى شواطئ جربة والحمامات. آخرون من الجزائريين معجبون بالتجربة الديموقراطية التونسية الفتية، مفتونون بدستورها الجديد الذي ضمن حقوقاً كثيرة في المواطنة والعيش الكريم، لمختلف شرائح المجتمع التونسي. دستور يعكس درجة الوعي في المجتمع التونسي، على ما يقول جزائري من مدينة وادي سوف الحدودية. ويأمل كثيرون في أن يقدم استقرار تونس ونجاحها في البناء الديمقراطي نموذجاً جيداً ومغرياً للجزائر.
ولكن، ما المطلوب من الجزائر أن تصنعه لتونس في الوقت الراهن؟ تحدثت أخبار أن الجزائر قررت نشر فرق وكتائب إضافية، قوامها نحو ثلاثة آلاف جندي ودركي، تضاف إلى التعزيزات السابقة التي بلغت خمسة آلاف عسكري، لتحمي نفسها، ولتحمي ظهر تونس، وتساعد على تأمين الانتخابات. إذا صدقت هذه الأخبار، نستطيع القول إن الزيارات المتكررة التي قام بها الشيخ راشد الغنوشي إلى الجزائر أتت أكلها، وطمأنت المسؤولين في الجزائر، وخففت من وطأة التخوف الذي كانت تبديه القيادة العسكرية في الجزائر من الوضع الجديد في تونس.
من جهة أخرى، صحيح أن الجزائر كانت أول من قدم دعماً مالياً للحكومة المؤقتة في تونس، وتقول مصادر أن هبةً منحتها الجزائر لتونس بلغت مئة مليون دولار، وأن قرضاً ميسراً آخر لم يعلن عن قيمته تم الاتفاق عليه بين البلدين. قد يعتبر بعضهم هذا كافياً من الطرف الجزائري لمساعدة تونس من الخروج من أزمتها المالية التي أججتها الاحتجاجات الفئوية والعمالية، بعد الثورة، غير أن المطلعين عن الأوضاع المالية التونسية يعرفون أنها بحاجة ماسة، الآن، إلى مساعدات وقروض ميسرة من الأشقاء، أكثر من أي وقت مضى. وإذا كانت دول عربية "شقيقة" تعمل على وضع العصا في عجلة الثورات العربية، في إطار صراع بين الثورة والثورة المضادة، وهو صراع بين إرادة التغيير والأنظمة الفردية الديكتاتورية، فإن على الجزائر أن تفهم، قبل فوات الأوان، أن استقرار تونس هو استقرار لها، وأن تطور تونس اقتصادياً رافد مهم لتكامل اقتصاد البلدين، ما من شأنه أن يعود بالفائدة حتماً على الشعبين. وإلا ما فائدة مليارات الدولارات التي تضعها الجزائر في البنوك الأميركية، وجارتها تستجدي عطف صندوق النقد الدولي، لعله يجود عليها بقروضٍ، قد تكون مكبلة لها لا مغيثة. ولعل في ما مرت به إمارة دبي من ضائقة مالية في أزمة العام 2008 عظة للجزائريين الذين فرطوا آنذاك في مساعدتها ببضع مليارات، كانت ستكون جسراً متينا للتعاون بين الشعبين فيما بعد، كما قال لي أحمد بن بيتور، رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق.