09 نوفمبر 2024
اختفاء لبنان؟
قبل أيام، خرج دبلوماسي أميركي لـ"يزفّ" إلى اللبنانيين خبراً مشؤوماً، لا عن إمكانية تدهور سعر صرف الليرة، أو احتمال تطوّر الوضع الأمني إلى الأسوأ، بل ليقول إن "لبنان الذي نعرفه قد يختفي". قبل أن يُدلي بمجموعة مواقف، اعتادت عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة، من قبيل "دعم لبنان والمحافظة على استقراره". لم يكن الموقف الأميركي جديداً، في سياق تاريخ العلاقات اللبنانية ـ الأميركية، إذ سبق لوزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، أن أصدر موقفاً كشف عن حقيقة الرؤية الأميركية لبلاد الأرز. في 1974، قبل حوالي السنة على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، كان كيسنجر يُشدّد على أن "لبنان خطأ جغرافي".
في كرونولوجيا الأحداث والتراكمات التاريخية، يُمكن متابعة "تجميع" النقاط السلبية التي تتالت على لبنان منذ استقلال 1943، بدءاً من نشوء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلّة، ثم الحروب العربية ـ الإسرائيلية، مع ما رافقها من لجوء فلسطيني إلى البلاد، مروراً بالحرب اللبنانية، وانخراط فئاتٍ واسعةٍ من الدول في القتال اللبناني، ثم توقيع اتفاق سلام هشٍّ، فُرِّغ من معناه، وظهر عن قصد أو غير قصد كـ"مهيئ" لأزمة أخرى، دخلناها في السنوات الـ12 الأخيرة.
لم يكن العامل الخارجي في السياسة اللبنانية ليكون بهذا النفوذ، لولا العامل الداخلي. تاريخ لبنان كملجأ لشعوب وطوائف وأديان وإثنيات، تجمّعت كلها في تلك البقعة الجبلية من الشرق الأوسط، لم يشفع له لإظهار "فكرة لبنانية"، بمعزل عن العنصرية أو الشوفينية التي يُتهم بها الشعب اللبناني، تسمح في تطوير الذات الإنسانية، انطلاقاً من صهر كل تلك الفئات تحت سماء بلد واحد ونظام مشترك. على العكس من ذلك، تمّ تسخير كل هذه الفوارق لحسابات خارجية وداخلية، معطوفة على مصالح شخصية وجماعية، تظهر بين حين وآخر. أنتج هذا الأمر نظاماً ركيكاً، الغرض منه تغطية كل من يتجاوز القوانين، باسم المحسوبيات والطوائفية، في إطار شعار "البقاء للأقوى"، ولا يُمكن عزل إطلاق سراح مجرمين، لم يمضوا محكوميتهم كاملة، ولا إبطاء سير المحاكمات القضائية، ولا تراكم النفايات في الشوارع اللبنانية، ولا غياب القانون في الجرائم الفردية، ولا تضعضع السياسة الداخلية والخارجية للبنان، وغيره، عن كل ما سبق.
لا يُمكن أيضاً وضع "الموت على أبواب المستشفيات لغياب الأموال اللازمة لدخولها"، ولا "إخراج تلاميذ من المدارس لعدم قدرة الأهل على دفع الأقساط"، ولا سوء خطوط المواصلات والنقل، وعدم توفّر فرص العمل في السوق اللبناني، سوى في سياق إفرازات المساوئ التي استولدتها سلبية تراكمات لبنان ونظامه.
من الطبيعي، وفقاً لسير الأمور، أن يؤدي ذلك كله إلى أمرٍ محدّد، قد يكون أسوأها "اختفاء لبنان"، بحسب الدبلوماسي الأميركي، وقد يكون أفضلها قلب الطاولة على رؤوس الجميع، لتجميد السقوط الحرّ في البلاد، تكون بمثابة ثورةٍ عارمة، لكنها مستبعدة حالياً وبقوة. قد يكون صعباً حصر لبنان بين خيارين لا ثالث لهما، لكنه الواقع الذي لم يعد خافياً على أحد. ليس لبنان الموقع الجغرافي الأول من نوعه عالمياً الذي جمع كل تناقضات الشرق الأوسط فيه، بل إن الولايات المتحدة التي تُحذّر لبنان، والمولودة بشكلها الحالي منذ حوالي الـ500 عام، تُشكّل نموذجاً فاقعاً في احتضانها كل تناقضات العالم، تحت راية أميركية واحدة. لم يجعل ذلك من الولايات المتحدة دولةً فحسب، بل أعظم دول العالم. أما لبنان، فلا يحتاج، على الرغم من كل سلبياته ومساوئه، سوى إلى قرار أو خيار، يرفعه من قعر الهاوية إلى حيث يجب أن يكون، لاستغلال "إيجابية" التنوّع، بدلاً من الغرق في قوقعةٍ مميتة، تُفضي إلى الفناء الذاتي. لا يبدأ هذا الخيار سوى الاقتناع بالانتماء إلى لبنان، لا غيره.
في كرونولوجيا الأحداث والتراكمات التاريخية، يُمكن متابعة "تجميع" النقاط السلبية التي تتالت على لبنان منذ استقلال 1943، بدءاً من نشوء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلّة، ثم الحروب العربية ـ الإسرائيلية، مع ما رافقها من لجوء فلسطيني إلى البلاد، مروراً بالحرب اللبنانية، وانخراط فئاتٍ واسعةٍ من الدول في القتال اللبناني، ثم توقيع اتفاق سلام هشٍّ، فُرِّغ من معناه، وظهر عن قصد أو غير قصد كـ"مهيئ" لأزمة أخرى، دخلناها في السنوات الـ12 الأخيرة.
لم يكن العامل الخارجي في السياسة اللبنانية ليكون بهذا النفوذ، لولا العامل الداخلي. تاريخ لبنان كملجأ لشعوب وطوائف وأديان وإثنيات، تجمّعت كلها في تلك البقعة الجبلية من الشرق الأوسط، لم يشفع له لإظهار "فكرة لبنانية"، بمعزل عن العنصرية أو الشوفينية التي يُتهم بها الشعب اللبناني، تسمح في تطوير الذات الإنسانية، انطلاقاً من صهر كل تلك الفئات تحت سماء بلد واحد ونظام مشترك. على العكس من ذلك، تمّ تسخير كل هذه الفوارق لحسابات خارجية وداخلية، معطوفة على مصالح شخصية وجماعية، تظهر بين حين وآخر. أنتج هذا الأمر نظاماً ركيكاً، الغرض منه تغطية كل من يتجاوز القوانين، باسم المحسوبيات والطوائفية، في إطار شعار "البقاء للأقوى"، ولا يُمكن عزل إطلاق سراح مجرمين، لم يمضوا محكوميتهم كاملة، ولا إبطاء سير المحاكمات القضائية، ولا تراكم النفايات في الشوارع اللبنانية، ولا غياب القانون في الجرائم الفردية، ولا تضعضع السياسة الداخلية والخارجية للبنان، وغيره، عن كل ما سبق.
لا يُمكن أيضاً وضع "الموت على أبواب المستشفيات لغياب الأموال اللازمة لدخولها"، ولا "إخراج تلاميذ من المدارس لعدم قدرة الأهل على دفع الأقساط"، ولا سوء خطوط المواصلات والنقل، وعدم توفّر فرص العمل في السوق اللبناني، سوى في سياق إفرازات المساوئ التي استولدتها سلبية تراكمات لبنان ونظامه.
من الطبيعي، وفقاً لسير الأمور، أن يؤدي ذلك كله إلى أمرٍ محدّد، قد يكون أسوأها "اختفاء لبنان"، بحسب الدبلوماسي الأميركي، وقد يكون أفضلها قلب الطاولة على رؤوس الجميع، لتجميد السقوط الحرّ في البلاد، تكون بمثابة ثورةٍ عارمة، لكنها مستبعدة حالياً وبقوة. قد يكون صعباً حصر لبنان بين خيارين لا ثالث لهما، لكنه الواقع الذي لم يعد خافياً على أحد. ليس لبنان الموقع الجغرافي الأول من نوعه عالمياً الذي جمع كل تناقضات الشرق الأوسط فيه، بل إن الولايات المتحدة التي تُحذّر لبنان، والمولودة بشكلها الحالي منذ حوالي الـ500 عام، تُشكّل نموذجاً فاقعاً في احتضانها كل تناقضات العالم، تحت راية أميركية واحدة. لم يجعل ذلك من الولايات المتحدة دولةً فحسب، بل أعظم دول العالم. أما لبنان، فلا يحتاج، على الرغم من كل سلبياته ومساوئه، سوى إلى قرار أو خيار، يرفعه من قعر الهاوية إلى حيث يجب أن يكون، لاستغلال "إيجابية" التنوّع، بدلاً من الغرق في قوقعةٍ مميتة، تُفضي إلى الفناء الذاتي. لا يبدأ هذا الخيار سوى الاقتناع بالانتماء إلى لبنان، لا غيره.