تفتقر السينما العربية إلى اشتغال كوميدي يمتلك مفردات فنية وتقنية ودرامية متلائمة وهذا النوع البصريّ. الكوميديا الصرفة مفقودة، والكوميديا المتضمِّنة مواقف مختلفة غائبة. أما الكوميديا المنقلبة ـ في لحظات معيّنة داخل السياق الدرامي ـ على نفسها بتحوّلها إلى واقعية حادّة في تناول حكايات ومسائل، فتحتاج إلى متخيّل تبدو السينما العربية معطّلة أمامه.
مآزق اليومي وأزمات العيش في المجتمعات العربية تصلح لصناعة كوميدية متنوّعة الأشكال والاشتغالات. لكن صناعة كهذه مفقودة بسبب انعدام مخيّلة سينمائية تنتقل بها إلى عوالم فنية وجمالية تُثير ضحكًا وسخرية، وبعضها غير مبتعدٍ عن تبيان حالة أو قراءة لحظة أو تعليق مبطّن على وضعٍ أو علاقات. فحسّ السخرية يختفي تدريجيًا من نفوسٍ كثيرة، لشدّة البؤس الذي يحول راهنًا دون مواجهة المأساة بالضحكة والنكتة. وثقل اليوميّ يبدو أقوى من إثارة سخرية مُضحكة تمنح المرء شيئًا من راحة، ولو مؤقتة، إزاء قسوة أو ارتباكٍ أو مآسٍ منفلشة في أحوال العيش والعلاقات.
يميل "طلق صناعي" (2017) لخالد دياب ـ المعروض في افتتاح الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد ـ إلى تلك الثنائية: انتقاد قسوة الواقع وشقائه بلغة كوميدية ساخرة. لكن الميل يقع في مطبّات كثيرة، يُلغي شيئًا كبيرًا من جمالية تلك الثنائية، فتختفي الكوميديا الانتقادية التي يوحي بها الفيلم من مسارات سردية يُفترض بها، كما يؤشّر إليه مضمونه، أن تعكس جوانب من قلق الحياة اليومية بشكلٍ انتقادي، يُمكن بناؤه على إثارة ضحك أثناء كشف الهوّة الكبيرة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد ومسائل منشغلين بها في اجتماع مهترئ ومنهار.
هذا نموذجٌ صالحٌ لتأكيد انعدام الكوميديا، بأنواعها وأنماطها المختلفة، في السينما العربية حديثة الإنتاج على الأقلّ. فيه، تبدو الكوميديا الانتقادية الساخرة ركيزة وحيدة لحكاية يُراد منها انتقاد أحوال البلد بعد "ثورة 25 يناير"، فإذا بالانتقاد ـ الذي يُفترض به أن يُصنَع بتلك اللغة الكوميدية، بحسب ما يوحي به المناخ العام ـ تهريج في الكتابة والتمثيل وتصوير شخصيات "تُمثِّل" نماذج في السياسة والأمن والاجتماع في مصر، و"رموز" ثورية، ينال النصّ منها بإعادة منطلقات انقلابها إلى أسبابٍ ذاتية شخصية بحتة، وإلى مواقف آنيّة لا علاقة لها بدوافع "ثورة 25 يناير" مثلاً.
اقــرأ أيضاً
لكن تهريجًا كهذا يفقد خصوصيته الفنية لشدّة ما فيه من تسطيح وتصنّع وادّعاء معرفة وخيال. فرغبة الزوجين حسين (ماجد الكدواني) وهبة (حورية فرغلي) في الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدّة الأميركية لإنجاب التوأم فيها بعيدًا عن خراب القاهرة وانهياراتها المختلفة، يصطدم مجدّدًا برفض منحهما ما يريدان لنقصٍ في المستندات. الرفض الجديد هذا يدفع حسين إلى خطف الموجودين داخل مبنى السفارة ريثما يُمنح وزوجته التأشيرتين المطلوبتين، ما يستدعي تدخّل السفير الأميركي ومسؤولين أمنيين وسياسيين مصريين، وبدء سلسلة مواقف يُراد لها أن تكون كوميدية فتبقى مجرّد نكات معزولة عن السياق الدرامي الحكائي، ونافرة ضمن المسار السردي. والشخصيات، الأساسية وغير الأساسية ـ كالسفير الأميركي (نجيب لحسن) والمسؤول الأمني المصري اللواء حافظ (سيّد رجب) ورئيس الوزراء (عبد الرحمن أبو زهرة) وبعض موظّفي السفارة والقادمين إليها لتقديم طلبات الحصول على تأشيرة، بالإضافة إلى أقارب حسين (بيومي فؤاد وإنعام سالوسة وغيرهما) ـ مُقدَّمة بشكل كاريكاتوري تهريجي مُسطّح وساذج، يفقد متطلبات الكاريكاتور الانتقادي والتهريج المُضحك، ما يجعل التقديم مفتعلاً ومدّعيًا ومتصنّعًا.
والافتعال حاضرٌ في اللقطات الأخيرة أيضًا: الخطاب المتصنّع لحسين على باب السفارة، وإنجاب أحد الولدين التوأم داخل مبنى السفارة الأميركية (ما يعني اهتمامًا أميركيًا به) والآخر خارجها، وملامح الحزن والألم والأمل معًا على وجه حسين المُلقى القبض عليه من الأمن المصري، إلخ. افتعالٌ خطابي مسطّح، يفقد بدوره أي تأثير سينمائيّ ممكن.
الكوميديا مفقودة، رغم إمكانية موضوع كهذا على منح النصّ السينمائي كمًّا هائلاً من الانتقادات، التي يُمكن تصويرها بشكلٍ حيوي وشفّاف ومثير لضحكٍ يُنبّه ـ في الوقت نفسه ـ إلى قسوة الواقع ومرارة العيش. نصّ كهذا غير مبنيّ على الكوميديا الصرفة، لأن المنطلق الحكائي نابعٌ من رغبة في الهجرة لشدّة الخراب الحاصل في البلد. لكن الكوميديا الانتقادية الساخرة مفقودة بدورها، لغياب مخيّلة سينمائية في ابتكارها، أو ربما لميلٍ (خفي؟) لدى صانعي الفيلم (تأليف الثلاثي محمد وخالد وشيرين دياب) إلى تشويه الكوميديا بأنواعها المختلفة. فـ"طلق صناعي" يبتعد عن أي نوع كوميدي، ويبتعد عن كلّ تحوّل درامي، ويبتعد عن مفهوم السينما كلّيًا.
اقــرأ أيضاً
الكتابة وحدها غير كافية. هذا دافعٌ إلى "تنفيذٍ" إخراجيّ عاجز عن إتمام مهمّة سينمائية بسيطة تُنتج فيلمًا متين الصُنعة، كتابةً وتمثيلاً ومعالجةً وتقنيات، وإنْ بالحدّ الأدنى. فالتنفيذ مرتبك، والنصّ مبسّط إلى درجة التفكّك، بسبب انعدام التوازن بين نكاتٍ متفرّقة ومرميّة عشوائيًا في طيّاته وتعليقات ساخرة على أحوال بلدٍ مضطرب، في مرحلة لاحقة على فشل "ثورة 25 يناير" في تحقيق المُراد منها، وعلى انقلابٍ عليها متأتٍ من إمساك العسكر، مجدّدًا، بزمام الأمور؛ وبين بناء سينمائيّ غير سوي البتّة. نكات وتعليقات تُصيب شخصيات مصرية، أمنية وسياسية، وأخرى عادية مأخوذة من المجتمع، لكنها باقيةٌ في إطار ساذج يخلو من أي بصمة سينمائية تجعله مُصيبًا في مسعاه، إنْ يكن له مسعى أصلاً. بالإضافة إلى سذاجة السخرية من السفير الأميركي، ومن النزاع الخفي بين الجهاز الأمني المصري ووحدات الـ"مارينز"(!)، والصدام الحاصل بين ثقافتين مختلفتين، مصرية وأميركية.
"طلق صناعي" نموذج "حيّ" عن معنى الانقلاب البصري على السينما الكوميدية متنوّعة الأشكال والأساليب والأمزجة والمضامين.
يميل "طلق صناعي" (2017) لخالد دياب ـ المعروض في افتتاح الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد ـ إلى تلك الثنائية: انتقاد قسوة الواقع وشقائه بلغة كوميدية ساخرة. لكن الميل يقع في مطبّات كثيرة، يُلغي شيئًا كبيرًا من جمالية تلك الثنائية، فتختفي الكوميديا الانتقادية التي يوحي بها الفيلم من مسارات سردية يُفترض بها، كما يؤشّر إليه مضمونه، أن تعكس جوانب من قلق الحياة اليومية بشكلٍ انتقادي، يُمكن بناؤه على إثارة ضحك أثناء كشف الهوّة الكبيرة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد ومسائل منشغلين بها في اجتماع مهترئ ومنهار.
هذا نموذجٌ صالحٌ لتأكيد انعدام الكوميديا، بأنواعها وأنماطها المختلفة، في السينما العربية حديثة الإنتاج على الأقلّ. فيه، تبدو الكوميديا الانتقادية الساخرة ركيزة وحيدة لحكاية يُراد منها انتقاد أحوال البلد بعد "ثورة 25 يناير"، فإذا بالانتقاد ـ الذي يُفترض به أن يُصنَع بتلك اللغة الكوميدية، بحسب ما يوحي به المناخ العام ـ تهريج في الكتابة والتمثيل وتصوير شخصيات "تُمثِّل" نماذج في السياسة والأمن والاجتماع في مصر، و"رموز" ثورية، ينال النصّ منها بإعادة منطلقات انقلابها إلى أسبابٍ ذاتية شخصية بحتة، وإلى مواقف آنيّة لا علاقة لها بدوافع "ثورة 25 يناير" مثلاً.
لكن تهريجًا كهذا يفقد خصوصيته الفنية لشدّة ما فيه من تسطيح وتصنّع وادّعاء معرفة وخيال. فرغبة الزوجين حسين (ماجد الكدواني) وهبة (حورية فرغلي) في الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدّة الأميركية لإنجاب التوأم فيها بعيدًا عن خراب القاهرة وانهياراتها المختلفة، يصطدم مجدّدًا برفض منحهما ما يريدان لنقصٍ في المستندات. الرفض الجديد هذا يدفع حسين إلى خطف الموجودين داخل مبنى السفارة ريثما يُمنح وزوجته التأشيرتين المطلوبتين، ما يستدعي تدخّل السفير الأميركي ومسؤولين أمنيين وسياسيين مصريين، وبدء سلسلة مواقف يُراد لها أن تكون كوميدية فتبقى مجرّد نكات معزولة عن السياق الدرامي الحكائي، ونافرة ضمن المسار السردي. والشخصيات، الأساسية وغير الأساسية ـ كالسفير الأميركي (نجيب لحسن) والمسؤول الأمني المصري اللواء حافظ (سيّد رجب) ورئيس الوزراء (عبد الرحمن أبو زهرة) وبعض موظّفي السفارة والقادمين إليها لتقديم طلبات الحصول على تأشيرة، بالإضافة إلى أقارب حسين (بيومي فؤاد وإنعام سالوسة وغيرهما) ـ مُقدَّمة بشكل كاريكاتوري تهريجي مُسطّح وساذج، يفقد متطلبات الكاريكاتور الانتقادي والتهريج المُضحك، ما يجعل التقديم مفتعلاً ومدّعيًا ومتصنّعًا.
والافتعال حاضرٌ في اللقطات الأخيرة أيضًا: الخطاب المتصنّع لحسين على باب السفارة، وإنجاب أحد الولدين التوأم داخل مبنى السفارة الأميركية (ما يعني اهتمامًا أميركيًا به) والآخر خارجها، وملامح الحزن والألم والأمل معًا على وجه حسين المُلقى القبض عليه من الأمن المصري، إلخ. افتعالٌ خطابي مسطّح، يفقد بدوره أي تأثير سينمائيّ ممكن.
الكوميديا مفقودة، رغم إمكانية موضوع كهذا على منح النصّ السينمائي كمًّا هائلاً من الانتقادات، التي يُمكن تصويرها بشكلٍ حيوي وشفّاف ومثير لضحكٍ يُنبّه ـ في الوقت نفسه ـ إلى قسوة الواقع ومرارة العيش. نصّ كهذا غير مبنيّ على الكوميديا الصرفة، لأن المنطلق الحكائي نابعٌ من رغبة في الهجرة لشدّة الخراب الحاصل في البلد. لكن الكوميديا الانتقادية الساخرة مفقودة بدورها، لغياب مخيّلة سينمائية في ابتكارها، أو ربما لميلٍ (خفي؟) لدى صانعي الفيلم (تأليف الثلاثي محمد وخالد وشيرين دياب) إلى تشويه الكوميديا بأنواعها المختلفة. فـ"طلق صناعي" يبتعد عن أي نوع كوميدي، ويبتعد عن كلّ تحوّل درامي، ويبتعد عن مفهوم السينما كلّيًا.
الكتابة وحدها غير كافية. هذا دافعٌ إلى "تنفيذٍ" إخراجيّ عاجز عن إتمام مهمّة سينمائية بسيطة تُنتج فيلمًا متين الصُنعة، كتابةً وتمثيلاً ومعالجةً وتقنيات، وإنْ بالحدّ الأدنى. فالتنفيذ مرتبك، والنصّ مبسّط إلى درجة التفكّك، بسبب انعدام التوازن بين نكاتٍ متفرّقة ومرميّة عشوائيًا في طيّاته وتعليقات ساخرة على أحوال بلدٍ مضطرب، في مرحلة لاحقة على فشل "ثورة 25 يناير" في تحقيق المُراد منها، وعلى انقلابٍ عليها متأتٍ من إمساك العسكر، مجدّدًا، بزمام الأمور؛ وبين بناء سينمائيّ غير سوي البتّة. نكات وتعليقات تُصيب شخصيات مصرية، أمنية وسياسية، وأخرى عادية مأخوذة من المجتمع، لكنها باقيةٌ في إطار ساذج يخلو من أي بصمة سينمائية تجعله مُصيبًا في مسعاه، إنْ يكن له مسعى أصلاً. بالإضافة إلى سذاجة السخرية من السفير الأميركي، ومن النزاع الخفي بين الجهاز الأمني المصري ووحدات الـ"مارينز"(!)، والصدام الحاصل بين ثقافتين مختلفتين، مصرية وأميركية.
"طلق صناعي" نموذج "حيّ" عن معنى الانقلاب البصري على السينما الكوميدية متنوّعة الأشكال والأساليب والأمزجة والمضامين.