حين بدأت "احتفالية فلسطين للأدب" (بالفست) عام 2008، فرِحتُ، وهذه أسبابي: كان ما تبقّى من الوطن، مقسوماً، وكان زمن الرمادة شملنا جميعاً، حتى قبل هذا الحدث. كنا كمثقفين تحت الاحتلال نعاني على غير صعيد، فمن تهافت المؤسسة الثقافية الرسمية، إلى حصار وفاشيّة الكولونيالي، إلى وإلى.
وضعٌ مركّب ومعقّد، لم يجعل أكثرنا تفاؤلاً وقتَها يجرؤ على بصيص. في خضم ذلك الأفق المسدود، جاءت تلك المبادرة: مثقفون ومبدعون من أربعة أركان الريح، يقولون لك أنت في البال، أنت لم تُنسَ، نحن معك: نحسّ كما تحسّ، ونؤمن بما تؤمن. مفاجأة سعيدة لم يسبقها سابق. ولمّا عرفت أسماء المشاركين ونوعيتهم وُلدَ سببٌ إضافي لفرحي الشحيح.
لكنني في طويّتي، لم أكن لأتفاءل باستمراريتها. فما أشبه حال القائمين عليها بحالنا. وهل يمكن الاستمرار بشيءٍ سنواتٍ وسنوات وهو يعتمد، في المقام الأول، على التبرّع؟ غير أنّ "بالفست" خذلت توقّعي، ذلك الخذلان الجميل، وأعادتني إلى المقولة – القدَر: "تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة". أجل، هؤلاء اجترحوا جوهرة غرامشي، وأثبتوا، فعلاً وقولاً، أنهم لها.
سبعة أعوام مضت على بداية الاحتفالية، وفي كل عام تغتني وتتنوّع، بما تراكَمَ لديها من خبرة ومعرفة لصيقة. لا أقول هذا إلا كتقرير حال، وإن شئتم شهادة مَن رأى. فقد رست "بالفست" لأول مرة، على شاطىء قطاع غزة، عام 2012. وكنت آنَها هناك، ورأيت كيف استقبلها جمهور القطاع – مثقفين وأهالي- استقبالَ المشتاق إذا ذاق. لقد أشاعوا جواً من البهجة وصل العينيْن فترغرغتا. وأشهد أنني رأيت تلك الدموع في عشرات العيون.
ثمة أجيال في فلسطين يمكن تلخيص حياتهم بكلمتيْن: أبناء الحصار. أو إن شئتم: أبناء الغيتو. وهذا يشمل فاعلي الحركة الثقافية، مثلما يشمل غيرهم. لذا حين صافحنا أولئكَ المبدعين النبلاء [ولا أجد كلمةً تلخّصهم أفضل من هذه] لم نكد نصدق. فمن منا التقى بزميلٍ له في الضفة أو القدس أو الناصرة، منذ أحقاب؟ لا أحد. علاقتنا ببعضنا علاقة قراءة فحسب.
الآن تأتي "بالفست" وتجمع المفتّت والمجزّأ. تمدّ حبل السرّة ليصل كامل تراب فلسطين الانتدابية، من رفح إلى عكا. بالفست القادمة إلينا كل صيف، محصنةً بوعي أدبائها، ومسترشدةً بحملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، التي كان المجتمع المدني المحلّي أعلنها عام 2004 - هذه هي، وهذا تاريخها. فكيف نغمطها حقَّها، كما يذرذر بعضُهم، بهذه الحجة أو تلك؟
الوفاء يُحتّم، أن نضمّ ذوي العلاقة بها - بعُدت أو قرُبت- بين الرموش. والوفاء يحتّم أن نقول لمئة شاعر وكاتب وروائي وفنان شاركوا فيها إلى هذه اللحظة: شكراً لشجاعتكم ونُبلكم. شكراً على أنكم ما نسيتمونا، وهذا وحده كافٍ كي نمتنّ لكم، نحن منسيي العالم ومهجوري الدنيا.
ذكرت الوفاء، ولم أذكر أولوية أن يكون عادلاً، مَن جرّبَ الظلم طويلاً.
* شاعر فلسطيني من غزة يقيم في برشلونة