احتجاجات فرنسا إعلامياً: وضعية يائسة

07 ديسمبر 2018
صحافيون فرنسيون ينتظرون رئيس الوزراء (لودوفيتش مارتن/فرانس برس)
+ الخط -
لا أحد في وسائل الإعلام الفرنسية يمكن أن يقتنع، ولو لثانية، أن الإعلانات الحكومية، سواء تعلق الأمر بتجميد أو إلغاء زيادة على أسعار المحروقات سنة 2019، قادرة على وقف الحراك الاجتماعي، لأنها لا تلبي مطالبها، خصوصاً الملموسة منها، أي تعزيز القدرة الشرائية، علماً أن هذا الطلب كان من الشروط الأولى من "السترات الصفراء" لبدء حوار مع الحكومة، ولكنّ مياهاً كثيرة سالت تحت جسر الحراك، وأصبح سقف المطالب أعلى.

وعاشت فرنسا لحظاتٍ من التخبط الحكومي تركت أثرها على وسائل الإعلام، ربما يجد تفسيره المنطقي في صمت الرئيس إيمانويل ماكرون. فبينما كان رئيس الحكومة، إدوار فيليب، يبذل كل قوته الإقناعية في البرلمان، بعد ظهر الأربعاء، من أجل تمرير ما اعتبره تنازلاً وبادرة طيبة من الحكومة وعلامة تهدئة ورغبة جادة في الحوار، أي "تجميد" الزيادة المرتفعة في أسعار المحروقات، وهو ما سوّقه وزراء عديدون، خرجت تصريحات من الإيليزيه، مساء الأربعاء تعلن أن هذه الضرائب تّم إلغاؤها في سنة 2019.
وإذا كانت "السترات الصفراء" عبر كل الناطقين باسمهم، ترى أن الإجراء جاء متأخرًا وهو ناقص ولا يلبي كل مطالبهم، فإن مواقف رئاسة الحكومة والجمهورية المتعارضة، أثارت تعليقات وسائل الإعلام التي اعتبرتها نوعاً من "الاضطراب" و"الاختلال"، وهو ما فسرته بقراءة مختلفة، من الجهتين، لما يجري، واعترافاً بأن حركة "السترات الصفراء" ماضية في إضرابها ومطالبها، التي تحظى بالتفاف شعبي وفيّ، في حين أن شعبية الرئيس ورئيس حكومته في الحضيض.
ومن يعيش في فرنسا، لا بد أن يذهل من تكريس كل القنوات الإخبارية والعادية برامجها وفي مختلف فترات النهار والليل، لقضية السترات الصفراء.


"الحكومة تترنح" كتبت "لومانيتيه" على صفحتها الأولى، وشددت على ضرورة تحقيق "العدالة الاجتماعية"، وتطلق نيرانها على "الضريبة على الثروة"، التي ألغتها الحكومة قبل 18 شهراً، كـ"نوع من الهدية للأثرياء"، كما تقول السترات الصفراء، والتي كان بعض الوزراء قد تحدثوا عن احتمال إعادة فرضها، قبل أن يصدر تصريح من الإليزيه ينفي ذلك. وتجدر الإشارة إلى أن إعادة فرض هذه الضريبة من بين مطالب السترات الصفراء، وهم يعتبرونها نوعاً من التضامن الوطني، تضامن أصحاب الثورة مع بلدهم في لحظة حرجة.
صحيفة "ويست فرانس"، تحدثت عما تعتبره "تراجعاً"، فيما يخص إلغاء زيادة 2019. وتساءلت صحيفة "لوباريزيان" عما إذا كانت الحكومة اختارت في مواجهة "السترات الصفراء" أن تبقى في وضعية "استراحة"، أي أن "المشاريع الكبرى التي يتم تهيئتها يمكن دفنها؟ وتتحدث عن استراحة 6 أشهر من أجل تغيير المنهجية".
لا يبدو أن الإجراءات الحكومية كافية، على الإطلاق، لا لوقف الحراك ولا لبدء حوار. ويصرح كل الناطقين باسم السترات الصفراء، بأن الحكومة لم تفهم بعد مطالبهم، أو أنها تتعمد عدم الفهم. وهم يرحبون بالإعلان ولكنهم يريدون إلغاء كل الزيادات، وفرض الضريبة على الثروة وتعزيز الحد الأدنى القانوني للأجور. كما أن المعارضة لم تقتنع بالردود الحكومية، وترى أنها قرارات جاءت متأخرة، وغير كافية. وفي هذا الصدد نجح ماكرون، بشكل غير مباشر، في توحيد أحزاب اليسار داخل البرلمان، وهو ما جعلها تتقدم، مجتمعة، يوم الاثنين القادم بمذكرة حجب الثقة عن الحكومة.
ويدرك الجميع، معارضة وسترات صفراء، أنه يمكن فرضُ تنازلات مؤلمة على الحكومة، فمن كان يتصور أنها ستقبل إلغاء الزيادات على المحروقات؟ ولكن الحكومة لم تستجب بعدُ للمطالب الملموسة التي تعبر عنها السترات الصفراء، أي تعزيز القدرة الشرائية، أو العدالة الضريبية. وتلخص "ليبراسيون" الوضع، الآن، بأنه "فيما يخص القدرة الشرائية، فإن السلطة في وضع يائس".


الوضعية اليائسة، هو ما تحذّر منه الحكومة، وتتخوف من الوصول إلى حالة مأساوية. إذ انتقل الخوف والقلق إلى معسكر الإليزيه الذي يحذر بكلّ قواه، من تظاهرة يوم غدٍ السبت. وتحدث وزير الداخلية عن "وجود رغبة لدى جماعات متطرفة، في حدود بضعة آلاف، في القدوم إلى باريس من أجل التخريب والتحطيم والقتل". وأمام إصرار السترات الصفراء على رفض دعوات وزير الخارجية المطالبة بإلغاء التظاهر، ناشد الإليزيه الأحزاب السياسية والنقابات توجيه الدعوة للهدوء. وهو طلب أعاد وزير الاقتصاد، صباح أمس الخميس التأكيد عليه، طالباً من الجميع، صحافيين وإعلاميين ورجال سينما وسياسيين ونقابيين، تحمل مسؤولياتهم والعمل على إرساء الهدوء. وهو ما عبّرت عنه "ليبراسيون" فكتبت: "الأغلبية قلقة من سبت أسود".
وجاءت الاستجابة من النقابات العمالية، التي دعت سبع من بين ثمان منها (رفضت نقابة سوليدير الانضمام للبيان بسبب غياب الدعوة ليوم للتظاهر)، الخميس، في أول اجتماع لها منذ بداية الحراك، إلى التزام الهدوء في تظاهرة السبت، مع التأكيد على "شرعية" الحراك وشرعية مطالبه.
من جهتها، تواصل مختلف منصّات التواصل الاجتماعي التي يشرف عليها أنصار السترات الصفراء الاستعداد لتظاهرة السبت. وقد أعلن ما يقرب من 43 ألف شخص، في موقع واحد، عن دعمهم للجولة الرابعة، أي "حل البرلمان". ويتوقع البعض استمرار الحراك لأيام أو أسابيع، ولهذا توجد دعوات في فيسبوك من أجل "يوم بلا تلفزيون دعماً للسترات الصفراء"، وهو يوم الخميس 13 ديسمبر/ كانون الأول.

وليس سراً أن السترات الصفراء تتخللها تيارات متناقضة أحياناً، وهو ما يتسبب في صراعات وتوترات، وهو ما يجعل من الصعب عثور الحكومة على وفد مقبول من القواعد لمحاورته. وإذا كانت أغلبية السترات الصفراء لا تزال في حالة صراعية مع الحكومة، فإن تياراً خرج من رحمها يطلق على نفسه "السترات الصفراء الحرة"، وكان وراء نشر بيان صحافي يدعو لحوار بنّاء مع الحكومة. وإذا كانت الحكومة قد عولت على استمالته، إلا أنه غير مقتنع بالتنازلات الحكومية ولا يزال ينادي بـالتظاهر السلمي، ويرى أنه "يمكن الحصول على إنجازات اجتماعية من دون الدعوة للعنف. مفاوضات وسلمية".

وتحاول معظم أحزاب المعارضة، يساراً ويميناً، استثمار الحراك الاجتماعي، وهو ما يمكن قراءته في مواقع السترات الصفراء المنبثقة من هذه التيارات. فمواقع التواصل الاجتماعي القريبة من "فرنسا غير الخاضعة"، تشدد على ضرورة التظاهر، وهو موقف ميلانشون، وتقول: "فقط سترة صفراء لا عنفية تتظاهر"، وفيها دعوات لعدم تخريب المنشآت العامة ومحاولة درء ضربات الشرطة من دون الرد، والتقاط صور.. أي التظاهر فقط من أجل "فرنسا أفضل وأكثر عدلا للجميع".
وتدافع أغلبية السترات الصفراء عن حقها في التظاهر السلمي، يوم السبت، ولا تخفي شكوكها في استغلال السلطة لعنف مثيري الشغب. ويصعب العثور على عضو من السترات الصفراء مستعد لانتقاد تظاهرة السبت، خصوصاً أنّ إلغاء الزيادة على أسعار المحروقات سنة 2019 غير كافٍ، رغم الترحيب به، وتظل شروط السترات الصفراء للتفاوض مع الحكومة تنتظر تلبيتها من قبل حكومة، مترددة، ومن رئيس جمهورية صامت، لن يتحدث في الأمر، قبل يوم السبت، على الأرجح.​